عنوان الموضوع : ملف الإنجاز ....... اماراتي
مقدم من طرف منتديات بيت الامارات النسائي


السلام عليكم ........ شخباركم ؟؟؟

ما أبا أطول عليكم .............. أريد حل ملف الإنجاز صـ 148 بأسرع و قت إذا ممكن ....

و سموحة تعبتكم ........




<center> >>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
================================== </center>

<h3>>>>> الرد الأول :

مع أني انا اللي طلبت ....... ما عليه اللكل محتاي .. صح؟

نظرات في التمثيل البلاغي

لفضيلة الدكتور/ محمود السيد شيخون

الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية





تقديم

الحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين... وبعد

فهذه نظرات في التمثيل البلاغي قصدت من ورائها أن أكشف النقاب عن حقيقة هذا اللون البياني الجميل، وأن أميط اللثام عما ينطوي عليه من اللطائف والأسرار، وأن أتعرف على الشخصيات التي كان لها أثر في نموه وازدهاره، وتجلية محاسنه وأسراره.

والله الكريم أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا دائما لخدمة لغة القرآن العظيم إنه سميع مجيب. وهو حسبي ونعم الوكيل.


التمثيل في اللغة:

المثل بالكسر والتحريك وكأمير الشبه وجمعه أمثال، وتمثل بالشيء ضربه مثلا، والأمثل الأفضل، والطريقة المثلى الأشبه بالحق وأمثلهم طريقة أعدلهم وأشبههم بأهل الحق وأعلمهم عند نفسه بما يقول، ومثله له تمثلا صوره له حتى كأنه ينظر إليه، وامتثله هو تصوره، وامتثل طريقته تبعها فلم يعدها[1].


التمثيل في التقديم:

لقد كان مفهوم التمثيل عاماً عند القدماء من علماء البلاغة فقد أطلقوه على كثير من الصور البيانية كالاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه الاصطلاحي فقدامة بن جعفر المتوفى سنة

337 هـ جعله فرعاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى ومثل له بأمثلة تشمل كثيراً من الألوان البلاغية[2] وأبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ تحدث عنه تحت اسم المماثلة وأورد له كثيراً من الشواهد الأدبية التي تشمل كثيرا من الصور البيانية كالتشبيه الاصطلاحي والكناية والمجاز والاستعارة[3] وابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 463 هـ جعله ضربا من الاستعارة ومثل له بأمثلة أكثرها من قبيل الكناية والتشبيه الاصطلاحي[4].


الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي:

وظل مفهوم التمثيل عاما حتى جاء الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ فحدد مفهومه.. وفرق بينه وبين التشبيه الاصطلاحي وكشف النقاب عن بلاغته ثم تلاه السكاكي المتوفى سنة 626 هـ والخطيب القزويني المتوفى سنة 739 هـ، وهؤلاء الفرسان الثلاثة كانت لهم أياد بيضاء على هذا الفن البياني الجميل فقد عنوا بدراسته وإظهار محاسنه والكشف عن لطائفه وأسراره ووضع الحواجز الحصينة بينه وبين التشبيه الاصطلاحي، وإليك أيها القارئ الكريم آراء هؤلاء الفرسان في الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي.


رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني..

قسم الشيخ عبد القاهر التشبيه من حيث وجه الشبه إلى قسمين:-

أحدهما: تشبيه غير تمثيل..

وثانيهما: تشبيه تمثيل..

ثم أقام بينهما الحواجز الحصينة حتى لا يلتبس أحدهما بالآخر وهاك موجزاً معبراً عن رأيه[5].


التشبيه غير التمثيلي:-

هو ما كان وجه الشبه فيه أمرا بيناً بنفسه لا يحتاج فيه إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه مشرك للمشبه به في نفس وجه الشبه وحقيقة جنسه لا في مقتضاه ولازمه.

وذلك يتحقق في أمرين اثنين:

الأول: أن يكون وجه الشبه حسيا أي مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فيكون من المبصرات أو المسموعات أو المشمومات أو المذوقات أو الملموسات سواء أكان الوجه مفرداً أم مركبا.

الثاني: أن يكون وجه الشبه غرزيا طبعيا (عقليا حقيقيا) فالغرائز والطباع وإن كانت عقلية لأنها لا تدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فقد ألحقها عبد القاهر بالحسيات لأنها حقائق متقررة ثابتة تعلمها في المشبه به كما تعلمها في المشبه فالشجاعة والجبن والكرم والبخل والذكاء والغباء والقوة والضعف والصبر والجزع وما إلى ذلك من الكيفيات النفسية حينما يكون واحد منها وجه شبه فالتشبيه المعقود عليه يكون كالتشبيه الذي يكون وجه الشبه فيه حسياً سواء بسواء.


التشبيه التمثيلي:

أما التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر فهو ما لا يكون وجه الشبه فيه أمراً بيناً بنفسه بل يحتاج في تحصيله إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه غير مشارك للمشبه به في حقيقة وجه الشبه الظاهري وجنسه بل في مقتضاه ولازمه.

فإذا قلت (ألفاظ فلان كالعسل في الحلاوة) فإن (الحلاوة وجه شبه ظاهري فقط لأن المشبه به وهو العسل) يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة بخلاف المشبه وهو (الألفاظ) فإنه لا يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة ولذا يحتاج إلى التأول بإرادة ما تستلزمه الحلاوة من قبول النفس للشيء وحسن وقعه فيها، ولا كذلك الحسي، فالذي يشبه الأدهم[6] بالغراب في السواد يرى السواد في المشبه كما يراه في المشبه به دون أن يحتاج إلى تأول بصرف اللفظ عن ظاهره.

والخلاصة أن التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه عقلياً غير غرزي سواء أكان مفرد أم مركباً، وأن التشبيه غير التمثيلي محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه حسياً أو غرزياً سواء أكان مفرداً أم مركباً.


رأي السكاكي:

قسم السكاكي التشبيه من حيث وجه الشبه إلى:

تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي..

فالتشبيه التمثيلي عنده:

ما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً غير حقيقي[7].

والتشبيه غير التمثيلي:

ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك، وهذا صادق بالعقلي الحقيقي (الغرزي) والشأن فيه أن يكون مفرداً، وكذلك العقلي غير الحقيقي إذا كان مفرداً، وكذا جميع الحسيات مفردة كانت أم مركبة[8].


رأى الخطيب القزويني [9] :

قسم الخطيب القزويني التشبيه من حيث وجه الشبه إلى: تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي.

فالتشبيه التمثيلي عنده:

هو ما كان وجه الشبه فيه وصفا منتزعاً من متعدد أمرين أو أمور..

وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه المشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد سواء أكان ذلك الوجه حسياً أم عقلياً.

والتشبيه غير التمثيلي عنده:

ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك.

وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه الشبه فيه مفرداً سواء أكان الوجه حسياً أم عقلياً.

أمثلة توضح آراء الفرسان الثلاثة السابقة

قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأََرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأََنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[10]. شبه اللّه حال الدنيا في سرعة زوالها، وانقراض نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، وركونهم إليها بحال نبات الأرض ذهبت نضرته فجأة فجف وصار حطاماً بعدما زها، والتف وتكاثف وزين الأرض بخضرته، وعم نفعه الإنسان والحيوان، واطمأن الناس إلى دنو ثمره، وظنوا أنه قد سلم من الجوائح. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من سرعة الزوال وانقراض النعيم بعد الإقبال وعموم النفع واغترار الناس به واعتمادهم عليه.

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[11].

شبه اللّه حال أحبار اليهود وقد حملوا التوراة وقرأوها، وحفظوا ما فيها، ولم يعملوا بها ولا انتفعوا بآياتها بحال حمار يحمل أسفارا هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول وهو جاهل بما فيها ولا حظ له منها إلا ما يكده ويتعبه.

ووجه الشبه هو شقاء كل باستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء من تلك المنافع أو يعود عليه بعض تلك الفوائد[12].

قال أبو تمام يمدح أحمد بن أبي داود وكان قد وشي به إليه فظهر كذب الواشي:

طويت[13] أتاح لها لسان حسود
وإذا أراد اللّه نشر فـضيلـة

ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا اشتعال النار فيما جاورت

شبه أبو تمام فضائله التي نشرتها الوشاية من المساوئ والأضرار برائحة العود تظهر النار طيبها مع ما في النار من الإحراق والإيذاء.

ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من ترتب النفع على محاولة الضرر.

قال المتنبي من قصيدة له يعاتب فيها الدولة ويفتخر بنفسه:[14]

ويـكره اللّه ما تأتـون والكـرم
كـم تطلبون لنا عيبا فيعجزكـم

أنا الثريـا وذان الشيب الهرم[15]
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي

مثل المتنبي حاله مع العيب والنقصان بحال الثريا مع الشيب والهرم فإذا كان يستحيل قيام هذين بالثريا، كذلك يستحيل قيام العيب والنقصان به.

ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من محاولة إلصاق شيء بشيء لا يناسبه.

وقال الشاعر:

مـن دونها للحادثات مصائـد
نـهاية أهواء الـقـلوب بـعـيدة

ودون الذي يبغيه فـخ وصائد
فنحن كطير يبتغي الحـب مسرعـا

شبه الشاعر حال الناس في الدنيا يجدون ويجتهدون في الوصول إلى آمالهم وأمانيهم فتقف الخطوب والأحداث في طريقهم، وتحول بينهم وبينها بحال الطير تسرع إلى التقاط الحب فيقف الفخ والصائد في طريقها ويحولان بينها وبين الحب.

ووجه الشبه هو الطمع في الوصول إلى شيء محبوب مع وجود العوائق التي تمنع من الوصول إليه.

إذا تأملنا هذه المجموعة من الشواهد نجد أن وجه الشبه فيها مركبا عقليا غير حقيقي، وبعرضها على آراء الفرسان الثلاثة السابقة نجد أن التشبيهات التي اشتملت عليها من قبيل التمثيل عند عبد القاهر والسكاكي والخطيب القزويني.

قال ابن النبيه:

كالروض تطفو على نهر أزاهره
والليل تجرى الدراري في مجرته

شبه الشاعر هيئة الليل تسبح فيه النجوم بهيئة الروض تطفو أزاهره على النهر.

ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من أجرام صغار بيض مستديرة متناثرة فوق شيء يميل لونه إلى السواد.

قال الفرزدق:

ليل يصيح بجانبيه نهار
والشيب ينهض في المشيب كأنه

فقد شبه هيئة ظهور الشيب في الشاب بهيئة ظهور الصبح في جوانب الليل.

ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اختلاط البياض بالسواد.

وقال الشاعر يصف الشمس وقت طلوعها:

مرآة تبر بدت في كف مرتعش
ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها

فقد شبه الشمس وقت طلوعها حيث تكون حمراء لامعة مضطربة بمرآة من ذهب تضطرب في كف ترتعش.

ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من وجود شيء أحمر لامع يهتز ويضطرب..

إذا تأملنا هذه المجموعة من الشواهد كما تأملنا المجموعة السابقة نجد أن وجه الشبه في كل منها هيئة حسية تدرك بالحواس الخمس الظاهرة وبعرضها على آراء الفرسان الثلاثة نجد أن ما احتوته من التشبيهات من قبيل التمثيل عند الخطيب القزويني فقط، أما عند عبد القاهر والسكاكي فهي ليست من قبيل التمثيل.

قال بعضهم يصف حجة بالوضوح والانكشاف: &quot;حجة كالشمس في الظهور&quot; فشبه الحجة وهى مفرد عقلي بالشمس وهي مفرد حسي في وصف هو (الظهور) وبالنظر في هذا الوصف نجد أنه لا يصلح أن يكون وجه شبه لوجوده في المشبه به (الشمس) دون المشبه (الحجة) لأن الظهور من خواص المحسات، ووجه الشبه لابد من وجوده في الطرفين، ولذا احتيج إلى التأول بصرفه عن ظاهره وذلك بأن يراد مقتضاه ولازمه وهو (عدم المانع من الإدراك) وبذلك يكون مشتركا بين الطرفين.


رأيي:

إذا جاز لي أن أذكر رأيي في هذه المسألة فإني أرى أن هذه الآراء التي استعرضتها مع وجاهتها ورسوخ أقدام أصحابها في البلاغة العربية فيها شيء من القصور فعبد القاهر يقصر تشبيه التمثيل على ما كان الوجه فيه عقلياً غير غرزي سواء أكان مفرداً أم مركباً، وحجته في ذلك أن مثل هذا الوجه يحتاج في تحصيله إلى إعمال فكر وإلطاف رويّة وينفي التمثيل عما كان الوجه فيه حسياً مركباً مع أن هذا الوجه وإن كان مدركاً بالحواس إلا أن انتزاعه من الطرفين ونظمه في هيئة مركبة يحتاج إلى إعمال الفكر وإلطاف الروية كالوجه العقلي فينبغي أن يكون التشبيه المعقود عليه من قبيل التمثيل لكن عبد القاهر لم ينظمه في سلك التمثيل وهذا قصور منه.

والسكاكي يخص التمثيل بما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً، لأن هذا المركب يحتاج في الوصول إليه إلى إعمال الفكر وإرهاف الحس، وأهمل المركب الحسي كما أهمله عبد القاهر مع أنه مشارك للمركب العقلي في احتياجه إلى بذل الجهد والمشقة حتى يمكن تحصيله والعثور عليه. والخطيب القزويني أطلق اسم التمثيل على ما كان الوجه فيه مركباً سواء أكان حسياً أم عقلياً، وأهمل ما كان الوجه فيه مفرداً عقلياً غير غرزي مع أن هذا الوجه لا يمكن تحصيله والوصول إليه إلا بعد كد الذهن وإرهاف الحس، لأنه يستلزم صرف اللفظ عن ظاهره وإرادة مقتضاه ولازمه كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.

وإذا تأملنا حديث هؤلاء الفرسان عن التمثيل والتشبيه فإننا نراهم يعتمدون في إيضاح الفرق بينهِما على احتياج الوجه إلى بذل الجهد والمشقة وعدم احتياجه إلى ذلك.. فإذا كان الطريق إليه سهلاً ميسوراً لوضوحه وقربه سموا التشبيه المعقود عليه (تشبيهاً غير تمثيلي) وإذا كان الطريق إليه وعراً لدقته وبعده سموا التشبيه المعقود عليه (تشبيهاً تمثيلياً) وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون الفرق بينهما على النحو التالي:

التمثيل: هو ما كان الوجه فيه دقيقاً لا يدركه ولا يفطن إليه إلا أصحاب الأذواق السليمة الذين ارتفعوا عن طبقة العامة.

وهذا يتحقق في:

(أ) ما كان وجه الشبه فيه مفرداً عقليا غير غرزي.

(ب) ما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً.

(ج) ما كان وجه الشبه فيه مركباً حسياً.

التشبيه: ما كان وجه الشبه فيه واضحاً بيناً لا يحتاج إلى إعمال فكر وإلطاف روية. وهذا يتحقق في:

(أ) ما كان وجه الشبه فيه مفرداً حسياً.

(ب) ما كان وجه الشبه فيه عقلياً حقيقيا[16].


من أسرار التمثيل..

إن من يمعن النظر في أسلوب التمثيل في لغة القران العظيم يتضح له أنه ينطوي على كثير من اللطائف والأسرار التي تحرك الأحاسيس والمشاعر وتهز العواطف، فهو أسلوب قد أحسن استخدامه على أتم وجه، ومن ثم فإنه يؤدي دوره وهو متمكن من نفسه ثم من نفوس السامعين فنجده يؤثر تأثيراً قوياً في النفوس، ويبرز المعقول في صورة مجسمة، ويلبس المعنوي ثوب المحسوس، ويفصل المجمل، ويوضح المبهم، ويصيب المعنى.

ولأجل هذا التف حوله الأدباء، فأصبح الميدان الفسيح الذي يتنافسون فيه لإظهار مواهبهم، والوسيلة المثلى التي ترنو إليها أبصارهم وحولها تهفو أمانيهم، ليستعينوا بها في إبراز صدورهم الأدبية منيرة موحية معبرة في قوة ووضوح عن المعنى الذي يسيطر على المقام.

يقول العلامة أبو السعود في تفسيره: &quot;.. والتمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا؟ وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبراز لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشي في هيئة المألوف&quot;.

ويقول الزمخشري: &quot;التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن كان صغيرا كان المتمثل به كذلك&quot;.

وقال الأصبهاني: لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثال والنظائر شيء ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق تريك به المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسورة الجامح الأبي فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه..

ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وفشت في كلام النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي كلام الأنبياء والحكماء.

وقال ابن المقفع: &quot;إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسامع، وأوسع لشعوب الحديث..&quot;

وقال إبراهيم النظام:

&quot;يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام:

إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة&quot;.

وقال عبد القاهر الجرجاني[17]: &quot;واعلم أن مما اتفق عليه العقلاء أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا.

فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.

وإن كان ذما كان مسه من أوجع وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد؛ وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.

وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعد وشرفه أجد ولسانه ألد.

وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب، وللقبول أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر وأجدر بأن يجلي الغيابة، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفى الغليل..&quot;


وخلاصة القول أن التمثيل يشتمل على كثير من الأسرار منها:

1- قوة التأثير..

2- إبراز المعقول في صورة مجسمة.

2- إلباس المعنوي ثوب المحسوس.

4- الإيجاز..

5- الإيضاح..

6- إصابة المعنى..

7- رفع الأستار عن الحقائق..

8- تقريب المراد للعقل وعرضه في صورة مشوقة.


وهاك بعض الأمثلة التي توضح هذه الأسرار وتجليها:

قال ابن الرومي يصور وعد رجل مخلاف بشجر الخلاف:

وأبى بعد ذلك بذل العطاء
بذل الوعد للأخاء سمحا

ـن ويأبى الإثمار كل الإباء [18]
فغدا كالخـلاف يورق للعيـ

مثل حال من يبذل الوعود السخية ثم لا يتبعها بالتنفيذ، بشجر الخلاف يورق الأوراق الكثيرة، ثم يأبى أن يجود بالثمر.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حسن المنظر مع سوء المخبر)

قال ابن التلميذ:

تسعفه النفس وهو يعسفهـا
أشكو إلى الله صاحبا شكـا

تكسبه النـور وهو يكسفها[19]
فنحن كالشمس والهلال معا

مثل حاله يحسن إليه فيقابل إحسانه بالإساءة بحال الشمس مع الهلال تمده بالنور وهو يكسفها، ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من مقابلة الإحسان بالإساءة).

قال الطغرائي:

لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل[20]
وإن علاني من دوني فلا عجب

مثل حاله وقد علاه من دونه في الفضل والمنزلة بحال الشمس مع زحل يعلوها وهي أسمى منه منزلة، وأرفع مكانة.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء يعلوه شيء آخر أقل منه نفعا وأدنى مرتبة).

وقال ابن لنكك:

رأيت صورته من أقبـح الصور
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا

نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا

مثل حال الإنسان البهي الطلعة إذا قبح فعله، فنفر منه الناس وتجنبوه، بحال الشمس إذا اشتد حرها فنفر منها الناس وتقوها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء الحسن إذا اقترن به الأذى والضرر).

وقال عمر بن لجا التميمي في مدح آل المهلب بن أبي صفرة:

ما حازه عـربي لا، ولا كـادا
آل المهلب قوم خولوا شرفـا

بما احتكـمت من الدنيا لما حادا
لو قيل للمجـد حد عنهم وخلهم

مثل المكارم تحل في آل المهلب لا تعدل عنهم بالأرواح تحل في الأجساد، لا غنى لها عنها. ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حلول شيء في شيء لا غنى له عنه)

وقال النابغة من قصيدة له يعتذر فيها للنعمان بن المنذر:

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فإنك شمس والنجوم كواكب

مثل حاله مع الملوك في تفوقه عليهم في القوة وسعة الملك والسلطان وتغطيته عليهم بحال الشمس مع الكواكب، وأنها إذا طلعت لا يبدو من الكواكب شيء لشدة ضيائها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من التفوق الظاهر للشيء على غيره).

قال أبو إسحاق الغزي:

ما لهذا المنحني الظهر ومـالي
لست أنسى قول سلمى ذات يوم

وكسوف الشمس مـن قرب الهـلال
أنا شمس في الضحى وهو هلال

فقد مثلت حالها مع هذا المنحني الظهر يسيء إليها إذا اقترب منها بحال الشمس مع الهلال إذا اقترب منها أصابها بالكسوف..

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء إذا اقترب من شيء آخر أساء إليه).

قال مروان بن سليمان بن يحي بن أبى حفصة يهجو قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يميزون جيده من رديئه على كثرة استكثارهم من روايته:

بجـيدها إلا كعـلم الأباعـر
زوامل للأشعـار لا علم عندهم

بأوساقـه أرواح ما في الغرائر[21].
لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا

مثل رواة الشعر الذين يستكثرون من حفظه، ثم لا يميزون بين الجيد منه والرديء بالأباعر التي تحمل الأوثاق والغرائر غادية ورائحة، وهي لا تدري ما في داخلها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاملة من تحمل التعب في استصحاب الشيء مع جهله).

قال بعض الشعراء:

ولا نـدري مـتى يرد الحمام [22]
يجـد بنا الزمان ونـحن نلـهو

يمـر بنـا.. كمـا مـر الغمـام
ويخدعنا الهوى في ظـل عيـش

تسـير بـهم وهم فيهــا نيـام
كركب سفينـة في لـج بحـر

مثل حال الناس في الدنيا يخدعهم الهوى ويلهيهم الأمل، وتغرهم الدنيا بزخرفها ومتاعها، فيعيشون في غفلة، فلا يحسون بالأيام وهي تسرع بهم إلى نهايتهم التي يجهلونها بحال أناس ركبوا سفينة، ثم ناموا فهي تسير بهم وهم لا يحسون بها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الغفلة وعدم الإحساس والجهل بالنهاية).

قال التهامي:

سيل طغى فطغى على النوار[23]
والصبح قد عمر النجـوم كأنه

مثل هيئة الصبح وقد غطى النجوم بضيائه بهيئة سيل طغى على أزهار بيضاء فسترها وغطاها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء يغطي شيئا آخر ويستره)..

قال عبد المطلب مفتخرا:

كالنوم ليس مأوى سوى المقل
لا ينزل المجـد إلا في منازلنا

مثل المجد يحل في منازل قومه، لا يعدل عنها بالنوم يحل في المقل لا غنى له عنها. ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حلول شيء في شيء لا غنى له عنه).

قال الشاعر:

فالطير يرقص مذبوحا من الألم
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا

مثل حاله يظهر السرور ويخفي الألم بحال الطير المذبوح يرقص من شدة الألم.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يخالف ظاهره باطنه)

قال الشاعر:

ولا يمنع الأسلاب منكـم مقاتل
رأيتكـم تبدون للحـرب عـدة

ولا يمنع الخراف ما هو حامل[24]
فأنتم كمثل النخـل يشرع شوكه

مثل حالهم وقد أعدوا العدة للحرب، ولم يمنعوا العدو من السلب بحال النخل تشرع شوكها ولا تمنع الخراف من جني ثمارها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يملك وسائل الدفاع، ولا يستعملها).

قال الحسن بن هانئ:

له عن عدو في ثياب صديق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت

مثل حال الدنيا تغر وتخدع بزينتها، وتؤلم وتفجع بفعلها بحال عدو يرتدي ثياب صديق فيظهر المودة ويضمر السوء.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يخالف ظاهره باطنه..).

قال ابن طبا طبا:

نجاة من البأساء بعد وقوع
كأن انتضاء البدر من تحت غيمه

مثل هيئة البدر وهو يخرج من تحت الغيم بهيئة إنسان يخرج من شدة وقع فيها.

ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الخروج من حالة سيئة إلى حالة حسنة).

إذا أمعنا النظر في التشبيهات التمثيلية التي مضت نجدها قد رفعت الأستار عن الحقائق فأرتنا المتوهم متيقنا والمتخيل متحققا، وألبست المعنوي ثوب المحسوس، وأبرزت المعقولات في صدور مجسمة، فقربتها من العقول، وجعلتها مشاهدة ملموسة، ليست موضع شك ولا ارتياب، وقد كشفت عن ملامح الخبيئات، وعبرت بكلمات قليلات عما لا يمكن التعبير عنه إلا بآلاف الكلمات، وصورت فأجادت وأبدعت، وأكسبت المعاني النبل والشرف، وفعلت في النفوس فعل السحر.


مع التمثيل في القرآن الكريم

لقد تعرضنا فيما سبق لبعض صور التمثيل في الشعر، ووضحنا ما تنطوي عليه من اللطائف والأسرا ر.

ولكننا إذا جئنا إلى التمثيل في القرآن وجدنا أسلوبا فوق طاقة البشر، ووجدنا تصويرا فنياً عجيباً يعجز عن إدراك شأوه أساطين البيان، وتسجد له البلاغة في أسمى معانيها، وإنما كان التمثيل بهذه المثابة وتلك المنزلة لاشتماله على خصائص فنية لا توجد في غيره.


خصائص التمثيل في القرآن:

من هذه الخصائص الفنية:

1- تماسك الصور التمثيلية في القرآن تماسكاً شديداً يجعلها بحيث لو حاولنا فصل أحد الأجزاء لا نفرط عقد الصورة، وانتثرت معالم الجمال فيها، ومن هنا نرى القوة البيانية متمثلة في إعطاء الفكرة عن طريق الصورة التمثيلية مركبة الأجزاء، والعجيب في ذلك أن التمثيل نفسه لم يأت عبثاً، ولكننا نراه يجيء عقب فكرة يراد توضيحها، وتمكينها في ذهن السامع، هذا لما نعلمه من أن الحجة لا تقام إلا بعد طرح الدعوى وبسط الفكرة.

تأمل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[25].

فقد يتوهم أن المعنى يفهم لو اقتصر في التشبيه على قوله: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل.

ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً حين يقرن بقية أجزائها إليها من حمل الأسفار، وعدم الفقه بما فيها، واعتقاد أنها كبقية الأحمال التي تثقل الكاهل وتجهد القوي، وذلك في جميع أبعاده يطابق حال اليهود وقد منحوا التوراة لتكون لهم نبعا يستقون منه الحكمة والهداية، ولكنهم يحملونها بإثقال سواعدهم بها دون أن يتدبروها، كأن على قلوبهم الأقفال[26]..

فتمام الصورة لا يحصل إلا بتجميع كل هذه الأجزاء، وإلصاق كل تلك القيود ومن هنا تبرز الصورة قوية التعبير صادقة الأداء.

وتأمل قوله تعالى: في تصوير نفرة الكفار من الدعوة الإسلامية:

{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}[27]

فقد يظن أيضا قصير النظر أنه كان يمكن الاكتفاء في تصوير حالتهم بوصفهم بالحمر، ولكن المراد غير ذلك، فالمشركون لا يريدون إعمال عقولهم في خلق السماوات والأرض ليهتدوا إلى الخالق، وهم - في الوقت نفسه - لا يستجيبون إلى الداعي، بل كلما عرض عليهم من دعوته ابتعدوا عنه مسرعين، وكأن في أعماقهم شيئا يحثهم على الهرب منه والابتعاد الخاطف من طريق دعوته.

هذه الحالة لا تكفي لها حالة الحمر، وإنما تقتضي كون هذه الحمر مستنفرة مدفوعة- من نفسها أو من غيرها- إلى العدو الجبان، ثم تزداد الصورة وضوحاً، وتمكنا من النفس عندما يلحق بها جزئية الفرار من أسد هصور يطلبها طعاما لأنيابه ومخالبه، فنجدها تتفرق في كل مكان هائمة على وجهها، والخوف الشديد يملأ صدورها.. فهذا أبلغ تصوير لإعراض الكافرين عن الدعوة، وهو في الوقت نفسه بعث للنفس العاقلة على السخرية منهم[28].

2- انتقاء ألفاظ التمثيل في القرآن، واختيارها اختياراً مناسباً للمعنى، معطياً كل ما يتطلبه المقام ومن هنا كان التمثيل في القرآن موحياً مشعاً لا يكاد ينقر حبات القلوب حتى يؤثر فيها بطريقة فنية ونفسية عجيبة.

أنظر إلى القرآن العظيم حينما يستخدم أسلوب التمثيل في تصوير فناء هذا العالم، ودمار تلك الحياة التي يظن أصحابها أنها باقية خالدة لا شيء بعدها.

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأََمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[29].

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}[30].

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}[31].

فهذه آيات ثلاث ترمي إلى هدف واحد، وهو عدم الثقة في الحياة الدنيا إلى حد اعتبارها خالدة، وأنه لا حياة بعدها، ولكن الأسلوب تجده قد اختلف بعضه عن بعض في درجات متفاوتة ولكنها تمثل جميعاً قمة التعبير الأدبي عن هذا المعنى الخالد.

يقول الدكتور أحمد بدوي عن بلاغة هذه الآيات الثلاث:[32].

&quot;ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده، فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء، فيصبح بهيجاً نضراً يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح هشيماًَ تذروه الرياح - يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه، وأطنب أخرى ليستقر معناه في النفس، ويحدث أثره في القلب فقال مرة: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً..} وقال مرة أخرى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} وقال مرة ثالثة: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.

وانظر إلى القرآن العظيم حينما يتخذ أسلوب التمثيل وسيلة إلى التغلغل في أعماق المنافقين فيكشف عن منازعهم ونوازعهم، ويبين خوالجهم ونبضاتهم، ويميط اللثام عن أدق حالاتهم وأحوالهم، ويلون سلوكهم ومشاربهم فها هو ذا- في أول سوره الطوال سورة البقرة- يحلل اتجاهاتهم، ويرسم بأسلوبه المشرق الأخاذ صورة تنبض بما يجيش في أعماقهم، وتومي إلى ما حاولوا الحفاظ عليه، وتفضح ما خفي من نقائصهم ونقائضهم.

{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ. مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}[33].

هذا لون من المنافقين آتاهم اللّه دينا فيه هداية، وشريعة فيها صلاح وفلاح، فآمنوا إيمان ظاهريا، وعطلوا عقولهم، وألغوا تفكيرهم، ولم ينتفعوا بما جاءهم، ولم يقتفوا نهج من سلفهم، وكانوا أمة وحدهم، فابتكروا لأنفسهم منازع واتجاهات انحرفت بهم عن السنن الظاهر والحجة الواضحة، ولم يكتشفوا أنفسهم والهدي القائم بينهم والخير السائد فيهم، والنور الغامر لمن حولهم من المؤمنين الخالصين، فعموا عن ذلك كله وصموا، وضربوا صفحات عن هدي اللّه، وجعلوا بينهم وبين النور حجابا منيعا وسدا صلبا، فعاشوا بمعزل عن الحق وبمنأى عن الضياء، يهيمون في ديجور من الضلال وفي صلبا، فعاشوا بمعزل عن الحق وبمنأى عن الضياء، يهيمون في ديجور من الضلال وفي متاهة الباطل، لم ينعموا بما نعم له مخلصو المؤمنين من خير ونور وهدى.. مثل هؤلاء الصم البكم العمي في نفاقهم كمثل الذي استوقد نارا لينتفع بها في ليله الحالك فلما أضاءت النار ما حوله فرأى الضياء والسناء، سرعان ما أطفأها مطر شديد ذو ريح عاصف أخمد أوارها، وبدد لهيبها، فتحير وتخبط في الظلمات لا يدري ما يتجنبه ولا ما يتقيه.

{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[34].

وهذا صنف آخر من المنافقين كان فيهم بقية من رجاء ورمق من حياة أصاخوا بحواسهم ومشاعرهم إلى صوت الإيمان الحق، فاستجابوا له وآمنوا به.. ثم ساروا في طريق اللّه، يقتبسون أحيانا من نور التعاليم الإلهية، وتضيء سبيلهم معالم الشريعة ونور الحقيقة، ويسيرون خطوات ثم تتهاوى أقدامهم وتتعثر خطاهم، وتغشى بصائرهم، وتزيغ أبصارهم وينتكسون عندما يحكمون عقولهم، وتطغى عليهم تقاليد موروثة، وتعتلج في نفوسهم رواسب عفنة، فتهيج وتحيد بهم عن الجادة، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم.

يمثل القرآن حالة هذا الصنف الذي آمن ثم نكص، والذي انتفع آونة بإسلامه ثم آض إلى ما كان عليه بحال قوم كانوا يسيرون في مهمة متسع، وفي فلاة فسيحة، يلفهم فيها ظلام الليل الحالك، فوقفوا حيث يلتمسون النجاة ولا سبيل إليها.. ثم نزل بهم مطر غزير فيه رعد وبرق وصواعق، وقصف الرعد ولمع البرق، ودوت الصواعق.. وبين دفقات الخوف، ودفعات الرجاء يمشون خطوات في ضوء البرق الخاطف، ثم يذهب البرق ويذهب معه الضوء ويطبق عليهم الظلام وتحيط بهم العتمة، فيقفون في مكانهم، ويقيمون على حيرتهم ومخاوفهم مجترين أوهامهم وضلالاتهم..

ويقيمون على حيرتهم ومخاوفهم مجتردين أوهامهم وضلالاتهم..

وبهذا التمثيل الرائع أظهر القرآن للمؤمنين أن المنافقين في كل عصر وآن متفاوتون، ليسوا على شاكلة واحدة في الزيغ والمروق والخروج على المحجة والتعاليم، منهم من استقى من منبع الإيمان الصافي، ثم ارتد إلى الوحل يعب من الماء الراكد الآسن.. ومنهم من ظل هيمان صاديا يسدر في غوايته، ويهيم في ضلاله بعد أن ازور عن المنهل العذب وهو منه جد قريب.

وإلى هذا يشير الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره فيقول: &quot;ضرب اللّه تعالى لهذا الصنف في مجموعه.. (يقصد المنافقين في كل عصر وزمان) مثلين ينبئان بانقسامه إلى فريقين خلافا لما عليه أكثر التفاسير في أن المثلين لفريق واحد، وأن معناهما وموضوعهما واحد.

الأول: من آتاهم اللّه دينا وهداية عمل بها سلفهم فجنوا ثمارها، وصلح حالهم بها، أيام كانوا مستقيمين على الطريقة آخذين بإرشاد الوحي، واقفين عند حدود الشريعة، ولكنهم انحرفوا عن سنن سلفهم في الأخذ بها ظاهرا وباطناً، ولم ينظروا في حقائق ما جاءهم بل ظنوا أن ما كان عند سلفهم من نعمة وسعادة إنما كان أمراً خصوا به، أو خيراً سيق إليهم لظاهر قول أو عمل امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ذلك العمل لم يخالط سرائرهم، ولم تصلح به ضمائرهم، فأخذوا بتقاليد وعادات لم تدع في أنفسهم مجالا لغيرها، ولذلك لم يتفكروا قط في كونهم أحرى بالتمتع بتلك السعادة والسيادة من سلفهم لأن حفظ الموجود أيسر من إيجاد المفقود، بل لم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اقتدى من قبلهم بما فيه من شموس العرفان ونجوم الفرقان، لزعمهم أن فهمه لا يرتقي إليه إلا أفراد من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم ما وجدوا، وبكتبهم إذا فقدوا، فمثل هذا الفريق من الصنف المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية وحرمانه من الاهتداء بها بالمرة وانطماس الآثار دونها عنده مثل من استوقد نارا.

والوجه في التمثيل: أن من يدعي الإيمان بكتاب نزل من عند ربه وقد طلب بذلك الإيمان أن توقد له نار يهتدي بها في الشبهات، ويستضيء بها في ظلمات الريب والمشكلات ويبصر ضوءها ما قد يهجم عليه من مفترسة الأهواء والشبهات فلما أضاءت ما حوله بما أودعته من الهدى والرشاد وكان بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، وهجمت عليه من نفسه ظلمة التقليد الخبيث وعصب عينيه شيطان الغرور، فذهب عنه ذلك النور وأطبق عليه جو الضلالة بل طفئ فيه نور الفطرة، وتعطلت قوى الشعور بما بين يديه فهم بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.

وأما الفريق الثاني: فقد ضرب اللّه له المثل في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} وهو الذي بقي له بصيص من النور، فله نظرات ترمي إلى ما بين يديه من الهداية أحيانا، ولمعاني التنزيل لمعان يسطع على نفسه الفينة بعد الفينة، ويأتلق من نظره الحين بعد الحين، عندما تحركه الفطرة أو تدفعه الحوادث لنظر فيما بين يديه ولكنه من التقاليد والبدع في ظلمات حوالك ومن الخبط فيها على حال لا تخلو من الهوالك وهو في تخبطه يسمع قوارع الإنذار الإلهي، ويبرق في عينيه نور الهداية، فإذا أضاء له ذلك البرق السماوي سار، وإذا انصرف عنه بشبه الضلالات الغرارة قام وتحير.. لا يدري أين يذهب؟ ثم إنه ليعرض عن سماع نذر الكتاب ودعاة الحق كمن يضع إصبعيه في أذنيه حتى لا يسمع إرشاد المرشد ولا نصح الناصح، يخاف من تلك القوارع أن تقتله، ومن صواعق النذر أن تهلكه.. هذا هو شأن فريقي هذا الصنف بما يشير إليه المثلان إجمالا..&quot;

ويبلغ القرآن قمة التأثير ونهاية الإبداع حينما يصور حال المعوقين عن الجهاد وما يدور في قلوبهم من الفزع والقلق والاضطراب فيقول: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً..}[35].

فالصورة الأولى في الآيات صورة المعوقين عن الجهاد الفزعين من المضي إليه، الذين لا يريدون أن يتحملوا نصيبا من أعبائه فهم ذو نفوس قلقة مضطربة يتنازعها عاملان أساسيان، أولهما هو الخوف الذي يسيطر عليهم من المآل الفظيع المحدق بهم لو انكشف أمرهم، وبانت سرائرهم، ومن هنا فهم يرتعدون في حركاتهم.. وثانيهما هو الوصول إلى غاية التثبيط عن واجب الجهاد وهو عامل أقل شأناً في واقعهم من العامل الأول لأنهم حينما ينادون حقيقة إلى الجهاد تترجرج أحداقهم في محاجرها دليلاً على تقلصات نفوسهم من شدة الخوف..

والصورة الثانية هي صورة من يعالج سكرات الموت، يتنازع نفسه المال المظلم والخوف العميق من الجزاء المحتوم، دون أن تكون عنده القوة أو الإرادة التي يعتمد عليها في موقفه. أليست صورة المشبه به موحية كل الإيحاء بما كان عليه أولئك المعوقون للجهاد من ضعف في الإرادة وخيبة في المآل؟

3- إن عناصر التمثيل في القرآن الكريم مستمدة من الطبيعة، تلك الطبيعة التي ما زالت تشهد مرور الأجيال البشرية وهي ثابتة على حالتها المتغيرة، ومن هنا نلحظ ارتباط الإنسان- في أي جيل- بهذه الطبيعة التي تمثل الميدان الفسيح الذي يؤدي عليه الجنس الآدمي دوره في الحياة وكلما امتزجت عناصر هذا الاختلاط بين الإنسان والطبيعة ازدادت القرابة بينهما، وبرزت الألفة القائمة على معرفة الإنسان بأدق مظاهر الطبيعة، ومن هنا فإن التمثيل في القرآن مستمر استمرار الطبيعة نفسها وعام يدركه الناس جميعاً فنحن لا نكاد نجد في القرآن تمثيلا واحداً يدرك جماله شخص دون آخر، أو يتأثر به إنسان دون إنسان فالتمثيل في القرآن يختلف عن التمثيل عند العرب في الجاهلية مثلاً، لأن هذا الأخير مستمد من بيئة خاصة لا يدركه إلا من عاش في هذه البيئة وعاشر أشياءها على اختلاف طبقاتها من نبات وحيوان وجماد.

- فالطبيعة هي ميدان التمثيلات القرآنية منها استمدت حيويتها وتجددها الدائمين دوام الإنسان والطبيعة..

والتمثيل عند ما يستمد عناصره من الطبيعة التي تختلف من مكان إلى مكان وفي زمان عن زمان يهدف إلى أن يكون مؤثراً في كل وجدان مسيطراً على كل تفكير فالقرآن عندما يوضح أعمال الكفار في هذه الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}[36].. ندرك لأول وهلة أن أعمال الكفار لا قيمة لها ولا غناء فيها مهما كلفت أصحابها من جهد ومشقة ومهما بلغت من الخير، فمثلها كمثل السراب وهو ظاهرة من ظواهر الطبيعة، يغري منظرها الظامئ فيسرع نحوها متكلفا في ذلك جهداً حتى يصل إلى مرمى البصر لاهث الأنفاس خائر القوى.. ثم لا يجد شيئا، فتصور هنا كيف تكون نفسه بعد أن قطع مرحلة من المسير ولم يبل صداه، وكذلك الكافر.

ثم انظر إلى الآية الثانية {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ..}[37]..

كلما هالك تمثيل في موقف وانتقلت إلى غيره وجدت الموقف أشد هولا ًوهل هناك أشد رهبة وظلمة من أمواج بحر لجي بعضها فوق بعض يكتنفها سحاب مظلم؟ إن موقف الكفار الذين لم يؤمنوا باللّه ورسوله رهيب أرهب من أي شيء، وأعمالهم مظلمة بل أشد ظلاماً من الليل، وليس أمامهم بصيص من النور يهتدون به إلى سواء السبيل.

وهذا الانسجام في التنسيق بين الكلمات ظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض..

ينتقل بك إلى خضم لا تكاد تدرك فيه نفسك فتغمرك الخشية من جانب، وتمثل هؤلاء الضالين متخبطين في عالم أسود لا ينبلج له صبح ولا تطلع فيه الشمس، كما أن كلمات المشبه به المتسقة المترابطة توحي بالنهاية المحتومة التي تحيط بهؤلاء، وبقلوبهم الكالحة التي لا تنبض بالرحمة، ولا تلين للحق.

ثم تأمل هذه الآية {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}[38]..

إنها تمثل أعمال الكفار في ضياعها وذهابها إلى غير عودة بالرماد الهش الذي تذروه الرياح وتذهب به بددا إلى حيث لا يتجمع أبداً.

إن القرآن يتخذ من الرماد وهو عنصر من عناصر الطبيعة مثلاً لأعمال الكفار الضائعة، ثم يبلغ قمة التأثير حينما يضم إلى الرماد الريح الشديدة العاتية، إن الرماد لا يقوى على الصمود أمام قوى الرياح العاتية العارمة، إنه يتحلل وتتفتت ذراته، ويصبح لا شيء في دنيا العدم وأعمال الكفار مهما جلت وكثرت كهذا الرماد الذي انعدم وتلاشى في جوف الريح الهادرة.

أرأيت أجمل من هذا التصوير الخالد ولا أعجب من هذا التمثيل المعجز؟..

إن في هذا التمثيل من قوة التأثير وجمال التعبير ما يعجز عن إدراكه أساطين البيان.

وعن بلاغة التمثيل في الآية الكريمة يقول الأستاذ سيد قطب رحمه اللّه: &quot;ومشهد الرماد تشد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود، يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى، لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها، ولا الانتفاع به أصلا، يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك؛ فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.

هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان، ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث باللّه مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل، فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.. وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر&quot;[39].

وتأمل هذه الآية الكريمة {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ[40] فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ[41] فَآزَرَهُ[42] فَاسْتَغْلَظ[43]َ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ[44] يُعْجِبُ الزُّرَّاع..}[45].

إن الآية الكريمة تمثل حال الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه- رضي اللّه عنهم- في ترقيهم في الزيادة إلى أن قووا واستحكموا بزرع أثمر وأينع ثم قوى وغلظ ثم استوى واستقام حتى أعجب الخاصة من الزراع والعامة من الناظرين.

إنه تمثيل عجيب، وتصوير فني بديع، يستمد عناصره من الطبيعة فيصل إلى نهاية الإبداع وقوة التأثير إنه يجعلك كأنك أمام مشهد يفيض بالحركة والحياة يجعل الغائب مشاهدا والخفي واضحا جليا، ويقرب المراد من العقل ويرفع الأستار عن الحقائق، ويعرض المعنى في أسلوب مشوق موح مؤثر.

يقول المحقق الألوسي[46]: &quot;وهو مثل ضربه سبحانه وتعالى للصحابة رضي اللّه عنهم قلوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقى أمرهم يوماً فيوما بحيث أعجب الناس.

ثم يتابع الألوسي كلامه فيقول: &quot;وفي الكشاف: وهو مثل ضربه اللّه تعالى لبدء ملة الإسلام، وترقية في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي- صلى اللّه عليه وسلم- قام وحده، ثم قواه اللّه تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها.. وظاهره أن الزرع هو النبي صلى اللّه عليه وسلم والشطء أصحابه- رضي اللّه عنهم- فيكون مثلاً له عليه السلام وأصحابه لا لأصحابه فقط..&quot;

والتمثيل القرآني بهذه الخصائص الفنية التي لا توجد في غيره يعد من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم، فأسلوبه يعجز أساطين البيان عن محاكاته، ونظمه فوق طاقة البشر، وتركيبه لا يقدر عليه إلا خالق الأرض والسموات... [47] .




__________________________________________________ __________

<h3>>>>> الرد الثاني :

لأمانة منقوووووووووووووووووووووووووووووووووووووول




__________________________________________________ __________

<h3>>>>> الرد الثالث :

مشكووره ،، جزاج الله خير

سيتم تغيير العنوان ~~ السموحه ~~




__________________________________________________ __________

<h3>>>>> الرد الرابع :



بـــآركـ الله فيكِ على مساعدتك للاخرين




__________________________________________________ __________

<h3>>>>> الرد الخامس :

شكراااااا ...