لم استطع سوى أن أجمع لك هذه المعلومات ..
الشاعر المعمّر الكبير/ الحارث بن حلزة اليشكري البكري الوائلي.. دراسة وآراء
--------------------------------------------------------------------------------
شاعرنا أيها الأخوة الأعزاء هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبدالله بن مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل, الشاعر الجاهلي المشهور من أهل العراق , يكنى أبا ظليم, بالنسبة لتفاصيل مولده ونشأته فلم تذكر كتب الأدب والتاريخ شيئا ً عنهما, وكل ما ذكرته, هو تلك الحادثة التي وقف فيها الحارث أمام عمرو بن هند ينافح عن قومه في قصيدة طويلة يردّ بها على عمر بن كلثوم شاعر التغلبيين وسيّدهم. وقد ذكرناها في موضوع ( سيرة عمرو بن كلثوم التاريخية والأدبية ) تحت هذا الرابط :
https://www.enazh.com/vb/showthread.php?t=5516
وكان يقال في الإثر ( أفخر من الحارث بن حلزة ) وضربت عندما قال معلقته حيث أنه جمع بها أخبار القبائل ووقائعهم وذكر مآثر قومه وأمجادهم, فكان كثير الفخر بها . وكان ينشدها من وراء حجاب بحضرة الملك عمرو بن هند, لأنه كان اسلع أي أبرص, فلما أنشده هذه القصيدة أدناه حتى خلص إليه, ويقال : أن هند أم عمرو كانت تسمع إلى الحارث بن حلزة وهو ينشد قصيدته, فقالت لإبنها : بالله ما رأيت كاليوم قط , رجلا ً يقول مثل هذا القول يتكلم من وراء سبعة ستور, فقال الملك : أرفعوا سترا ً وأدنوا الحارث, وأستمر الحارث بإنشادة وعمرو بن هند يرفع الستور واحدا ً واحدا ً بناءً لطلب أمه حتى أزيلت الستور السبعة, وأجلس الملك الشاعر بقربه وأكرمه غاية الإكرام, وأطعمه في جفنته, وأمر أن لا ينضح أثره بالماء, وذلك لإعجابه الشديد بقصيدته, وبما ساق فيها من الثناء على آبائه وأجداده, ومعلقته موجوده على هذا الرابط وهي من كتابات الباحث التاريخي الكبير الأخ/ نايف الركابي :
https://www.enazh.com/vb/showthread.php?t=2504
ولسماعها :
https://www.dwaihi.com/ram/24moal7.ram
تلك هي الحادثة الوحيدة التي ذكرتها كتب الأدب والتاريخ عنه, ولولا هذه الحادثة لظّل الرجل مغمورا ً في زوايا النسيان مثله كمثل كثير من الشعراء الذين لم يفسح لهم التاريخ مجالا ً في صفحاته, لأن حياتهم لم ترتبط بحادثة ذات شأن تستوجب الذكر والرواية, ومما يجب ملاحظته في هذا الصدد.. أنه كان لملوك الحيرة أعظم الأثر في تعريفنا بشئ من تاريخ أكثر شعراء الجاهلية, ولولا إنتجاع أولئك الشعراء قصورهم بالحيرة والأحداث التي اتصلوا بها ما عرفنا من امره شيئا ً , فأهم مراحل حياة طرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة والنابغة الذبياني وغيرهم من فحول الشعراء في العصر الجاهلي.. إنما عرف منها ذلك الشطر الذي وفدوا فيه على أولئك الملوك مختصمين أو محتكمين أو طالبي عطاء وصلة , وكان هذا هو الذي وجه إليهم الأنظار , ولولا ذلك لضاعت أخبارهم وعفت آثارهم, كما عفت آثار الديار في صحراء العرب وباديتها.
ويبدو أن الحارث عندما أنشد قصيدته تلك, كان في سن متقدمة, يقال : أنه أنشدها وله من العمر مائة وخمس وثلاثون سنة, ومما يقوي ذلك الزعم ماورد بالقصيدة من أحداث وأخبار ووقائع, صاغها الحارث بأسلوب هادئ رصين ينم عن حكمة ورزانة وبعد نظر, وهذا يدل على أنه كان في مرحلة من النضج الذي لايكتسب إلا بالخبرة الطويلة المستفادة من الزمن وتجاربة, على العكس من قصيدة عمرو بن كلثوم التي صيغت بأسلوب نلمح فيه نزق الشباب وجهله, فقد طغى على قصيدته الصياح والضجيج والتعالي, فكان ذلك سببا ً للنفور والإبتعاد, وتغيّر الحكم الذي تحول بعد الإستماع إلى صالح البكريين بعد أن كان لصالح التغلبيين, ويعدّ الحارث من المعمّرين , قيل : إنه توفي نحو سنة 580 م وله من السنين مائة وخمسون سنة .
أما سيرته الأدبية فهي كسيرتة التاريخية, لم يولها النقاد والدارسون القدر الكافي من الإهتمام, نظرا ً لأن الحارث لم يؤثر عنه من الشعر إلا تلك القصيدة التي ذكرها القدماء في عداد المعلقات, ومع ذلك فقد جعله إبن سلام الجمحي في الطبقة السادسة من الشعراء الذين ترجم لهم إلى جانب عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد وسويد بن أبي كاهل, وقال في ترجمته : وله قصيدته التي يقول فيها : آذنتنا ببينها أسماء ... وله شعر سوى هذا, وهو الذي يقول في بعض شعره :
لاتكسع الشّول بأغبارها ** إنك لاتدري من الناتج
فالحارث إذا ً من الشعراء المقلّين , إلا أن صاحب كتاب ( شعراء النصرانية ) ذكر في ترجمته له أنه من شعراء الطبقة الأولى, ولعله يقصد في ذلك القدم الزمني وليس المكانة الشعرية التي عناها إبن سلام عندما صنّف الشعراء إلى طبقات , أما أبو عبيدة , فقد جعله مع الشعراء الذين برزوا في واحدة جيّدة, فقال : أجود الشعراء قصيدة واحدة جيّدة ثلاث نفر, عمرو بن كلثوم والحارث بن جلزة وطرفة بن العبد, وقال يعقوب بن السكيت : كان أبو عمرو الشيباني يعجب لإرتجال الحارث هذه القصيدة في موقف واحد, ويقول: لو قالها في حول ٍ لم يلم, وذكر صاحب الشعر والشعراء أن الأصمعي قال: قد أقوى الحارث بن حلزة في قصيدته التي أرتجلها حينما قال :
فملكنا بذلك الناس حتى ** ملك المنذر بن ماء السماء
قال أبو محمد : ولن يضرّ ذلك في هذه القصيدة لأنه إرتجلها فكانت كالخطبة, إلا أن أكثر النقاد والدارسين المحدثين لا يشاركون القدماء فيما ذهبوا إليه من القول بارتجالها, ويرون أن قصيدة الحارث قد أعدت بإحكام وهيئت لتقال في يوم الإحتكام فهي أشبه ما تكون بمرافعة حوت كل الحجج المنطقية لإقناع الحكم, وقد أفلح الحارث في عرضه الذي يدل على نضج وحنكة ودهاء سياسي قل نظيره, ويشير الدكتور طـه حسين إلى ذلك الإعداد المسبق فيقول : ويكتفي أن تقرأ هذه القصيدة لترى أنها ليست مرتجلة إرتجالا ً وإنما هي نظمت وفكر فيها الشاعر طويلا ً , ورتب أجزائها ترتيبا ً دقيقا ً وليس فيها من مظاهر الإرتجال إلا شئ واحد, وهو هذا الإقواء الذي نجده في قوله :
فملكنا بذلك الناس حتى ** ملك المنذر بن ماء السماء
فالقافية كلها مرفوعة إلا هذا البيت , ولكن الإقواء كان شيئا ً شائعا ً حتى عند الشعراء الإسلاميين الذين لم يكونوا يرتجلون في كل وقت, لكن الدكتور الفاضل نسى أمر مهم.. وهو عندما أتوا التغلبيون يحتكمون عند الملك عمرو بن هند كان سيدهم عمرو بن كلثوم أما البكريين فكان سيدهم هو ( النعمان بن هرم ) فحدث الجدال المشهور الذي كان بن الملك والنعمان والذي أسفر بإستبدال البكريين بسيدهم الذي يناضل عنهم بالحارث بن حلزة وهذا يعني أن القصيدة مرتجله وغير معدة مسبقا ً ويقطع جميع الشكوك التي أحاطتها.. ومن ثم نراه يقارن بين قصيدتي عمرو والحارث فيقول : إن قصيدة الحارث أمتن وأرصن من قصيدة ابن كلثوم, ولكنه مع ذلك يعتقد بأن القصيدتين منحولتان فيقول : على أن هذا لا يغيّر في رأينا في القصيدتين , ونحن لا نرجح أنهما منحولتان.
أما سيرته الشخصية فهي لاتقل ندرة عن سيرته التاريخية والأدبية وقد استطعنا من خلال معلقته وبعض ما ذكره الرواة عنه, أن نتعرف بإيجاز على شخصيّة ذلك الرجل الذي ذكر أنه أسلع أي أبرص , إلا أنه مع ذلك كان يتمتع بشخصية قوية تتمثل فيها كل مقومات القيادة الرشيدة والرئاسة الحميدة, فقد جمع الرجل في شخصه إلى جانب الفخر الذي ضرب به المثل حتى قيل : (أفخر من الحارث بن حلزة) الدهاء والحنكة والحكمة, فنراه في معلقته يحسن التصرف ويورد الأمور موردها الصحيح الذي يدل على خبرة سياسية جديرة بالإحترام والتقدير, فهو في دفاعه عن قومه لم يكن الرجل المتذلل الذي يريق ماء الوجه ليكسب جانب الملك إلى جانبهم, بل كان الرجل الهادئ الرصين الذي عرض مواقفهم في نصرة الملك وآبائه, ودافع بإباءٍ عن كرامتهم وشجاعتهم , وأحسن إستغلال نقاط الضعف عند الخصم فأقر له الملك بالغلبة والتقديم, وتوصل إلى غايته من غير أن يلحق بنفسة أو بقومه انتقاصا ً أو تفريطا ً بالموقع والمكانة والكرامة.
ذاك هو الحارث بن حلزة الشاعر الذي عرف أن القوة ليست عددا ً وعدّة فحسب, بل هي إلى جانب ذلك عقل يخطط, وعزم ينفذ, ورأي نيّر يستلهم تجارب الآخرين ويوظفها في سبيل تحقيق غاياته وأهدافه .
هوامش:
1- طبقات الشعراء
2- شعراء النصرانية
3- خزانة الأدب
4- الشعر والشعراء