ثانياً ؛ أنواع العفة . .
قال الماوردي ــ رحمه الله ــ: العفة و النزاهة و الصيانة من شروط المروءة , و العفة نوعان : احدهما العفة عن المحارم , و الثاني العفة عن المآثم , فأما العفة عن المحارم , فنوعان احدهما ضبط الفرج عن الحرام , و الثاني كف اللسان عن الأعراض , فأما ضبط ضبط الفرج عن الحرام فلأن عدمه مع وعيد الشرع و زاجر العقل معرةٌ فاضحة, و هتكة واضحة . و أما كف اللسان عن الاعراض ؛ فلأن عدمه ملاذ السفهاء و انتقام أهل الغوغاء , و هو مستهل الكف , و إذا لم يقهر نفسه عنه برادع كاف , و زاجر صاد , تلبط بمعارة و و نخبط بمضاره , و أما العفة عن المآثم فنوعان أيضاً : أحدهما : الكف عن المجاهرة بالظلم , و الثاني : زجر النفس عن الإسرار بخيانة . فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك و طغيان متلف , و يؤول إن استمر إلى غتنة تحيط في الغالب بصاحبها فلا تنكشف إلا و هو مصروع . و أما الاستسرار بالخيانة فضعةٌ لأنه بذل الخيانة مهين , و لقلةِ الثقة به مستكين , و قد قيل : من يخن يهن . هذا ولا يجعل ما يتظاهر به من الامانة زوراً , ولا ما بيديه من العفة غروراً , فينتهك الزور و ينكشف الغرور , فيكون مع هتكة للتدليس أقبح , و لمعرة الرياء أفضح .
قال ابن الجوزي ــرحمه الله ــ: الكمال عزيز و الكامل قليل الوجود , و أول اسباب الكمال تناسب أعضاء البدن و حسن صورة الباطن , فصورة البدن تسمى خلقاً , و صورة الباطن تسمى خلقاً , و دليل كمال صورة البدن حسن السمت و استعمال الادب , و دليل كمال صورة الباطن حسن الطبائع و الاخلاق .
فالطبائع : العفة , و النزاهة , و الأنفة من الجهل , و مباعدة الشره .
و الأخلاق : الكرم و الإيثار و ستر العيوب و ابتداء المعروف , و الحلم عن الجاهل .
فمن رزق هذه الأشياء رقته إلى الكمال , و ظهر عنه أشرف الخلال , و إن نقصـت خلةٌ أوجبت النقص .
ثالثاً ؛ شروط العفة و تمام العفة . .
شروط العفة :
و أعلم أنه لا يكون المتعفف عفيفاً غلا بشرائط :
و هي أن لا يكون تعففه عن الشيء انتظاراً لأكثر منه أو لأنه لا يوافقه , او لجمود شهوته , او لاستشعار خوف من عاقبته , أو لأنه ممنوع من تناوله , أو لأنه غير عارف به لقصوره فإن ذلك كله ليس بعفةٍ بل هـو إما اصطياد , أو تطبب او مرض او خرم أو عجز أو جهل , و ترك ضبط النفس عن الشهوة أذم من تركها عن الغضب .
فالشهوة مغتالة مخادعة , و الغضب مغالب و المتحيز عن قتال المخادع أردأ حالاً من المتحيز عن قتال المغالب . و لهذا قيل عبد الشهوة أذل من عبدالرق , و ايضاً بالشره قد يجهل عيبه فهو شبيه بأهل مدينة لهم سنة رديئة يتعاطونها و هم يعرفون قبحها , و ليس من تعاطى قبيحاً يعرفه كمن يتعاطاه و هو يظنه حسناً .
تمام العفة :
لا يكون الإنسان تام العفة حتى يكون عفيف اليد و اللسان و السمع و البصر فمن عدمها في اللسان السخرية , و التجسس و الغيبة و الهمز و النميمة و التنابز بالألقاب , و من عدمها في البصر : مد العين إلى المحارم و زينة الحياة الدنيا و المولدة للشهوات الرديئة , و من عدمها في السمع : الإصغاء إلى المسموعات القبيحة . و عماد عفة الجوارح كلها أن لا يطلقها صاحبها في شيء مما يختص بكل واحد منها إلا فيما يسوغه العقل و الشرع دون الشهوة و الهوى .
[ للاستزادة : انظر صفات : تعظيم الحرمات – حفظ الفرج – المروءة – النزاهة – الشهامة – الرجولة – النبل – الحجاب – العيرة – غض البصر – الحياء .
و في ضد ذلك : انظر الصفات : انتهاك الحرمات – الزنا – التبرج – الفسوق – العصيان – الديائة – الذل – الخنوثة – إطلاق البصر – الغي و الإغواء – الفحش – الكذب – النميمة]
من فوائـد " العفة " ؛
1 – من ثمرات الأديان و نتاج الغيمان .
2 – حفظ الجوارح عما حرم الله , و قيامها بما خلقت له .
3 – حفظ الأعراض في الدنيا , و لذة النعيم في الآخرة .
4 – هي ركن من أركان المروءة التي ينال بها الحمد و الشرف .
5 – نظافة المجتمع من المفاسد و المآثم .
6 – إشاعتها في المحتمع تجعله مجتمعاً صالحاً .
7 – دليل كمال النفس و عزها .
8 – صاحبها مستريح النفس و مطمئن البال .
9 – دليل وفرة العقل , و نزاهة النفس .
المثل التطبيقي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في (( الـعـفـة )) . .
- عن أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( "ني لأنقلب إلى اهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي , ثم ارفعها لىكلها ثم اخشى ان تكون صدقة قالقيها" ) .
- عن ابي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أنه قال : أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كخ كخ , ارم بها , أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" .
- عن أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ أنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق قال : " لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها " .
من الآثار و اقوال العلماء و المفسرين الواردة في " العفة " . . .
- قال لقمان الحكيم – رحمه الله تعالى -: "حقيقة الورع العفاف" .
- لما فتح المسلمون القادسية أخذوا الغنائم و دفعوها إلى العمر . فقال : "إن قوماً أدوا هذا لأمناء , فقالوا له : عففت فعفوا ولو رتعت يا أمير المؤمنين لرتعت أمتك" .
مصدر :
موسوعة نظرة النعيم , صالح بن عبدالله بن حميد , عبدالرحمن بن محمد بن عبدالرحمن بن المملوح , دار الوسيلة للنشر و التوزيع , ط(1) 1418هـ \ 1998م , جدة , المملكة العربية السعودية .