الله يجعلها في ميزان حسناتكم ادخلوا وساعدوني
عنوان الموضوع : الله يجعلها في ميزان حسناتكم ادخلوا وساعدوني
مقدم من طرف منتديات بيت الامارات النسائي
>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================
>>>> الرد الأول :
صلح الحديبية
وفيها كانت وقعة الحديبية . وعدة الصحابة إذ ذاك ألف وأربعمائة . وهم أهل الشجرة ، وأهل بيعة الرضوان . خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم معتمرا ، لا يريد قتالا . فلما كانوا بذي الحليفة قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث عينا من خزاعة يخبره عن قريش . حتى إذا كان قريبا من عسفان أتاه عينه فقالا : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي قد جمعوا جموعا ، وهم مقاتلوك ، وصادوك عن البيت .
حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن خالد بن الوليد بكراع الغميم ، فخذوا ذات اليمين " .
فما شعر بهم خالد حتى إذا هو بغبرة الجيش . فانطلق يركض نذيرا . وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان في ثنية المرار ، التي يهبط عليهم منها : بركت راحلته فقال الناس حل حل . فقالوا : خلأت القصواء فقال " ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل . ثم قال والذي نفس محمد بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها " .
ثم زجرها فوثبت به . فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثمد قليل الماء . فلم يلبث الناس أن نزحوه . فشكوا إليه . فانتزع سهما من كنانته . وأمرهم أن يجعلوه فيه فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه .
وفزعت قريش لنزوله . فأحب أن يبعث إليهم رجلا . فدعا عمر فقال يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان . فإن عشيرته بها ، وإنه يبلغ ما أردت . فدعاه فأرسله إلى قريش ، وقال " أخبرهم أنا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمارا ، وادعهم إلى الإسلام وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات . فيبشرهم في الفتح وأن الله عز وجل مظهر دينه بمكة حتى لا يتخفى فيها الإيمان " .
فانطلق عثمان . فمر على قريش . فقالوا : إلى أين ؟ فقال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ويخبركم أنه لم يأت لقتال . وإنما جئنا عمارا . قالوا : قد سمعنا ما تقول . فانفذ إلى حاجتك .
وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص ، فرحب به . وحمله على الفرس ، وأردفه أبان حتى جاء مكة . وقال المسلمون قبل أن يرجع خلص عثمان من بيننا إلى البيت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون " قالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص ؟ قال " ذلك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معه " .
واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح . فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الفريق الآخر . فكانت معركة . وتراموا بالنبل والحجارة . وصاح الفريقان وارتهن كل منهما من فيهم .
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل . فدعا إلى البيعة . فتبادروا إليه وهو تحت الشجرة . فبايعوه على أن لا يفروا . فأخذ بيد نفسه وقال " هذه عن عثمان " .
ولما تمت البيعة رجع عثمان فقالوا له اشتفيت من الطواف بالبيت . فقال بئسما ظننتم بي . والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف . ولقد دعتني قريش إلى الطواف فأبيت . فقال المسلمون رسول الله أعلم بالله وأحسننا ظنا .
وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة وهو تحت الشجرة ، فبايعه المسلمون كلهم . لم يتخلف إلا الجد بن قيس .
وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان أول من بايعه أبو سنان وهب بن محصن الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات في أول الناس ووسطهم وآخرهم .
فبينا هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء في نفر خزاعة - وكانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال إني تركت ابن لؤي وعامر بن لؤي : قد نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العوذ المطافيل . وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت . فقال " إنا لم نجئ لقتال أحد . وإنما جئنا معتمرين . وإن قريشا نهكتهم الحرب وأضرت بهم . فإن شاءوا ماددتهم ويخلوا بيني وبين الناس . فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جموا ، وإن أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقتلناهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره " .
قال بديل سأبلغهم ما تقول . فانطلق حتى أتى قريشا ، فقال إني قد جئتكم من عند هذا الرجل وسمعته يقول قولا . فإن شئتم عرضته عليكم .
فقال سفهاؤهم لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء . وقال ذوو الرأي منهم هات ما سمعته يقول قال سمعته يقول كذا وكذا .
فقال عروة بن مسعود إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ودعوني آته . فقالوا : ائته . فأتاه . فجعل يكلمه . فقال له نحوا من قوله لبديل . فقال عروة أي محمد ، أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الأخرى ، فوالله إني لأرى أو شابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك .
فقال أبو بكر : امصص بظر اللات ، أنحن نفر عنه وندعه ؟ .
قال عروة من ذا يا محمد ؟ قال أبو بكر . قال أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي - لم أجزك بها - لأجبتك .
وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويرمق أصحابه . فوالله ما انتخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم . فدلك بها وجهه وجلده وإذا أمر ابتدروا أمره . وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه . وإذا تكلم خفضوا أصواتهم . وما يجدون إليه النظر تعظيما له .
فرجع عروة إلى أصحابه فقال أي قوم والله لقد وفدت على الملوك - كسرى ، وقيصر . والنجاشي - والله إن رأيت ملكا يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدا . والله ما انتخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده . ثم أخبرهم بجميع ما تقدم ثم قال وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها .
قال رجل من بني كنانة " دعوني آته فقالوا : ائته . فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم قال " هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن . فابعثوها له " ففعلوا واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك . قال سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت . فرجع إلى أصحابه فأخبرهم . فبينا هم كذلك إذ جاء سهيل بن عمرو . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد سهل لكم من أمركم " .
ففال هات اكتب بيننا وبينك كتابا . فدعا الكاتب وهو علي بن أبي طالب - فقال " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " فقال سهيل أما الرحمن فما أدري ما هو ؟ ولكن اكتب " باسمك اللهم " كما كنت تكتب . فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال صلى الله عليه وسلم " اكتب باسمك اللهم " ثم قال " اكتب هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله " فقال سهيل والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولكن اكتب " محمد بن عبد الله " فقال " إني رسول الله وإن كذبتموني ، اكتب محمد بن عبد الله " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " على أن تخلوا بيننا وبين البيت . فنطوف به " فقال سهيل والله لا تحدث العرب أننا أخذنا ضغطة ولكن ذاك من العام المقبل . فقال سهيل " وعلى أن لا يأتيك رجل منا ، وإن كان على دينك ، إلا رددنه إلينا " فقال المسلمون " سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ " .
فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل وقد خرج من أسفل مكة يرسف في قيوده حتى رمى بنفسة بين أظهر المسلمين . فقال سهيل هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إنا لم نقض الكتاب بعد " فقال إذا والله لا أصالحك على شيء أبدا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فأجزه لي " قال ما أنا بمجتزه لك . قال " بلى فافعل " قال ما أنا بفاعل . قال أبو جندل يا معشر المسلمين كيف أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ؟ ألا ترون ما لقيت ؟ وكان قد عذب في الله عذابا شديدا - قال عمر بن الخطاب : " والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ألست نبي الله ؟ فال . بلى . قلت : ألسنا على حق وعدونا على الباطل ؟ قال بلى . قلت علام نعطي الدنية في ديننا ؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا ؟ فقال إني رسول الله وهو ناصري . ولست أعصيه . قلت . أو لست تحدثنا : أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام ؟ قلت : لا . قال فإنك آتيه ومطوف به . قال فأتيت أبا بكر . فقلت له مثلما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ورد علي كما رد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء وزاد فاستمسك بغرزه حتى نموت .
فوالله إنه لعلى الحق . فعملت لذلك أعمالا " . فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " قوموا فانحروا . ثم احلقوا " قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قالها ثلاث مرات . فلما لم يقم منهم أحد ، قام ولم يكلم أحدا منهم حتى نحر بدنه ودعا حالقه .
فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا . وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما . ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله ( 60 : 10 ) يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن - حتى بلغ - بعصم الكوافر فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك .
وفي مرجعه صلى الله عليه وسلم أنزل الله سورة الفتح ( 48 : 1 إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر - الآية . فقال عمر أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال نعم . قال الصحابة هذا لك يا رسول الله فما لنا ؟ فأنزل الله ( 48 : 4 ، 5 ) هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم - الآيتين إلى قوله - فوزا عظيما
ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - رجل من قريش - مسلما ، فأرسلوا في طلبه رجلين وقالوا : العهد الذي بيننا وبينك . فدفعه إلى الرجلين . فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة . فنزلوا يأكلون من تمر لهم .
فقال أبو بصير لأحدهما : إني أرى سيفك هذا جيدا . فقال أجل . والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت فقال أرني أنظر إليه . فأمكنه منه . فضربه حتى برد . وفر الآخر . حتى بلغ المدينة . فدخل المسجد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد رأى هذا ذعرا " فلما انتهى إليه قال قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول .
فجاء أبو بصير ، فقال يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم فأنجاني الله منهم . فقال صلى الله عليه وسلم " ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد " .
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم . فخرج حتى أتى سيف البحر . وتفلت منهم أبو جندل . فلحق بأبي بصير . فلا يخرج من قريش رجل - قد أسلم - إلا لحق به .
حتى اجتمعت منهم عصابة . فوالله ما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقاتلوهم وأخذوا أموالهم . فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن .
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثاني :
ما عندي تقرير جاهز ..عندي فقط هالمعلومات اتمنى اني قدرت افيدج :
صلح الحديبية
مقدمة
حاول القرشيون في مكة قدر استطاعتهم أن يمنعوا رسول الله r وأصحابه من دخول مكة لأداء العمرة، وقد دار بين الجانبين مفاوضات كثيرة، وانتهت تلك المفاوضات بإرسال رسول الله r عثمان بن عفان t سفيرًا للمسلمين إلى قريش للتفاوض معهم في أمر دخول المسلمين إلى مكة للعمرة.
وكما علمنا فقد كان موقف قريش -برغم اعتزازها بالكثرة والقوة- شديدَ الضعف تجاه مطلب المسلمين، وقد وقفت قريش حائرة تُقدِّم رِجلاً وتؤخِّر أخرى، وترسل الوسطاء الواحد تلو الآخر، وما استطاعت أن تأخذ قرارًا بحرب المسلمين، مع علمهم أن الرسول r وأصحابه لم يكونوا يحملون غير سلاح المسافر، وليس معهم عُدَّة حرب.
ومع كل هذه المفارقات بين قوة المسلمين وقوة المشركين، إلا أن المشركين حرصوا تمام الحرص على إتمام الصلح بينهم وبين المسلمين، وتجنبوا تمامًا أمر القتال، وقرار الصلح هذا لم يكن بسهل ولا يسير على قريش، وقد أخذ منها الوقت والجهد الكثير واليوم بعد اليوم، وما زال عثمان بن عفان t في داخل مكة ينتظره.
------
إشاعة مقتل عثمان وردّ فعل النبي r
في أثناء انتظار عثمان بن عفان t قرار قريش، أشيع بين المسلمين أنه ما تأخر إلا لأنه قتل في مكة، وهذا يُعَدّ أمرًا خطيرًا ومخالفةً جسيمة للأعراف والقوانين، وفيه إهانة كبيرة جدًّا للدولة التي قُتل رسولها.
وفور وصول هذه الإشاعة إلى أسماع النبي r، تعامل معها بكل جدية وصرامة، فهنا أشيع أن عثمان بن عفان رسولُ المسلمين إلى قريش قد قُتل، فماذا يكون تصرُّف الدولة العزيزة التي تدافع عن كرامتها، وترفع رأسها بين الدول تجاه هذا الفعل المهين؟
لقد جمع رسول الله r المسلمين جميعًا، ثم عقد معهم بيعة هي من أعظم البَيْعات في تاريخ الأرض، وقد عُرفت في التاريخ بـ(بيعة الشجرة أو بيعة الرضوان)[1].
وقد سميت بيعة الشجرة؛ لأنها وقعت تحت شجرة عند الحديبية. وسميت بيعة الرضوان؛ لأن الله U صرح في كتابه الكريم أنه رضي عن هؤلاء الذين قاموا بها، فقال I: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
لقد بايع المسلمون الرسول r، ولكن على أيِّ شيء بايعوا؟
الصحابة جميعهم قد بايعوا على ألا يفروا، وذلك كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما[2]، كما بايع بعض الصحابة على الموت، بل بايع بعضهم على الموت ثلاث مرات كسلمة بن الأكوع t؛ إذ بايع مرة ثم الثانية فالثالثة، كما جاء أيضًا في صحيح مسلم[3].
فكانت البيعة جِدُّ خطيرة حقًّا؛ إذ بايع الجميع على عدم الفرار، أي أنهم سيناجزون القوم، وسيقاتلون قريشًا، ولن يفروا أبدًا في هذا القتال، وهذا رغم كونهم لا يحملون إلا سلاح المسافر فقط. وقد بايع جميع الصحابة على هذا إلا واحدًا فقط هو الجَدُّ بن قيس، وهو -كما ذكرنا سابقًا- كان من المنافقين.
غير أن الغريب أنه بعد هذه البيعة العظيمة مباشرة جاء عثمان بن عفان t سالمًا لم يصبه شيء، وقد أخبرهم أن القرشيين قد وافقوا على الصلح، وأنه سيأتي رجل منهم يفاوض رسول الله r على بنود الصلح.
وقد ترتب على هذا أن المسلمين لم يدخلوا في حرب مع المشركين، وقد ظلت بيعتهم كما هي، الأمر الذي يتطلب وقفة مع هذا الحدث الجليل.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين، دار المعرفة، بيروت، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص315، 316.
[2] مسلم: كتاب الإمارة، باب استجباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة (1856)، ترقيم عبد الباقي.
[3] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب غزوة ذي قرد وغيرها (1807).
-------------
بيعة الرضوان في ميزان الإسلام
كان هناك عدة أمور ترتبت على عقد بيعة الرضوان هذه، وكانت ذات أثر ومعنى بالغ عند جميع المسلمين كما يلي:
أولاً: بها خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه:
يقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. فكل شيء في حياة المسلم هو لله رب العالمين، وفي سبيله حتى لحظة الموت، طاعة كاملة لله ولرسوله، وهذا أمر من الصعوبة بمكان.
فهذه مجموعة من المسلمين جاءت من المدينة إلى مكة لأداء العمرة، يتسلحون فقط بسلاح المسافر ولا مدد لهم؛ إذ المدينة على مسافة خمسمائة كيلو متر تقريبًا من هذا المكان، وكان الطبيعي أنهم إذا قاتلوا المشركين فإنهم جميعًا سيقتلون؛ إذ إنهم سيقاتلون جيشًا بعدة وعتاد، وفوق ذلك فهو على بُعد خطوات قليلة من المدد، كما أن قريشًا كان معها الأحابيش والقبائل الحليفة.
في هذه البيعة لم يفكر واحد من المسلمين في أولاده أو زوجته، لم يفكر أحدهم في تجارته أو في أعماله، لم يفكر أحدهم بالمرة في حياته، لم يقل أحد منهم أن ظروفه لا تسمح، بل لم يعقد أحد منهم هذه البيعة حرجًا من رسول الله r، أو حرجًا من المسلمين، إنما عقدوها جميعًا وهم صادقون راغبون، يقول الله I: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
فقد اطّلع الله U على قلوب كل من بايع، فعَلِم I أن هذه القلوب جميعها مخلصة مؤمنة، وكان هذا من الفتح المبين الذي ذكره الله U في بداية سورة الفتح التي تحدثت عن غزوة الحديبية أو صلح الحديبية، حيث قال I: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1].
فَأَنْ يصرح رب العالمين بالرضا عن هذه المجموعة الكبيرة من البشر، والتي يبلغ عددها ألف وأربعمائة مسلم، وهم ما زالوا أحياء على وجه الأرض يُرزقون، لهو -والله- من الفتح المبين.
وأن تصل مجموعة من البشر إلى هذا الرقي وهذا الإخلاص وهذا الفقه والفَهْم، وهذا العمل بهذه الصورة إلى الدرجة التي ترضي رب العالمين I رضاءً تامًّا يعبر عنه في كتابه الكريم، ونقرؤه في كتابه إلى يوم القيامة، هذا من الفتح المبين.
فكان لهذه البيعة حقيقةً مكانتُها وقيمتها في الميزان الإسلامي، وقد ظل هؤلاء الصحابة ألف وأربعمائة صحابي في عُرْف علماء الأمة من أعظم المسلمين درجة وإلى يوم القيامة، وهذا هو كلام الرسول r وشهادته لهم، كما جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أنه r خاطبهم يوم الحديبية وقال لهم: "أَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ"[4].
فكان هذا -إذن- هو أول ما ظهر في هذه البيعة، وهو التضحية والبذل والعطاء الكامل من الصحابة رضوان الله عليهم، وهو خلاصة ما هو مطلوب من المؤمن في دنياه.
ثانيًا: اهتزاز مكة من داخلها:
هذا الموقف الذي أعلن فيه المسلمون تضحياتهم العظيمة، ورغبتهم الأكيدة في الموت هزَّ مكة من داخلها هزة عنيفة، فمن ذا الذي يستطيع أن يقاتل قومًا يطلبون الموت؟! بماذا يهددهم ويخوفهم؟! أبالموت؟! فهذا هو مطلبهم؛ فقد بايعوا على أن يموتوا وعلى ألا يفروا حتى النهاية، حتى ولو كانوا عُزْلاً أو لم يكن معهم إلا سلاحٌ بسيط.
وما من شك أن هذا الموقف قد هزَّ مكة، وجعلها ترضخ للمفاوضات، وهي تريد أن يعود الرسول r إلى المدينة بأي ثمن، حتى وإن انتقص هذا من كرامتهم، وهذا ما سنراه بعد ذلك في بنود معاهدة الصلح.
وهذا الموقف من قِبل المسلمين، والذي هو من صفات الجيش المنصور، هو ما عبر عنه خالد بن الوليد t بعد هذا الحدث بسنوات بكلمات قليلة، قد ذكرها لهرمز ملك الأُبُلّة عند بدايات فتح فارس، حين قال له: "جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة"[5].
فالجيش الذي يحب الموت من المستحيل أن يُهزم، وهذا درس من أعظم دروس الحديبية، وكان من أجله أن قررت قريش إبرام الصلح بكل ما فيه.
ثالثًا: أخذوا قرار الموت فلم يصابوا بسوء:
وهو أمر غريب حقًّا، إذ لم يصب المسلمين سوءٌ عندما أخذوا قرار الموت وعدم الفرار، بينما أصابهم الموت في أُحُد واستشهد منهم سبعون رجلاً، وذلك حين أخذوا قرار الفرار (قرار الحياة) يوم أُحُد.
وإنه لأمر عجيب، سبعمائة رجل في أُحد يُقتل منهم سبعون، بينما ألف وأربعمائة في الحديبية لم يقتل منهم واحد، وهذا هو كلام أبي بكر الصديق t حين قال: "احرص على الموت توهب لك الحياة"[6].
فالجيش الذي يريد الموت حقًّا يهب له الله I الحياة، ومعها النصر والتمكين والسيادة، أما الجيش الذي يريد العيش أيًّا كان نوعه حتى لو كان رخيصًا أو ذليلاً، فهذا الجيش يكتب الله I عليه الموت.
رابعًا: التصريح بالرضا عنهم وهم ما زالوا أحياءً:
وهذا أمر مهم جدًّا ولافت للنظر، فالله I قد صرح بأنه رضي عن أولئك الذين قاموا بالبيعة، مع أنهم ما زالوا على قيد الحياة، ومن الممكن بعد ذلك أن يرتكبوا ذنوبًا أو أخطاء.
فإذا كان الله I يعلم الغيب، ويعلم أن هؤلاء سيفعلون كذا وكذا، إلا أنه من المؤكد أنهم سيقعون في أخطاء وذلك لكونهم بشرًا، وكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون.
بَيْدَ أننا نفهم من هذا معنى في غاية الأهمية، وهو أنه من الممكن أن يكون هناك موقف واحد في حياة المسلم لصالح المسلمين أو لصالح الأمة، يكون من الثقل بحيث إنه لا يُعدل به ذنبٌ بعد ذلك.
وهذا بالتأكيد ليس دعوة لاقتراف الذنوب، ولكنها دعوة للأعمال الصالحة التي تثقل في ميزان المسلم. ومثل هذا قد رأيناه أكثر من مرة في السيرة النبوية، كان منه - على سبيل المثال - صنيع عثمان بن عفان t في تبوك - سنتحدث عنه بالتفصيل بعد ذلك بمشيئة الله - والذي قال عنه رسول الله r يومها: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا فَعَلَ بَعْدَ الْيَوْمَ"[7].
فكان هناك موقف واحد في حياة عثمان t لو وضع في كِفَّةٍ ووضعت بقية الذنوب في كفة أخرى، فسترجح كفة هذا الموقف الكفةَ الأخرى، وبهذا سينجو عثمان t وأرضاه.
وهنا نريد أن نقف وقفة ويسأل كلٌّ منا نفسه: هل عندي موقف أعتقد أنه سيكون سببًا لنجاتي يوم القيامة؟
فكلنا يصلي ويصوم، لكن هل هناك عمل في حياتنا يخدم الأمة الإسلامية، ونستطيع أن نحمله بين أيدينا يوم القيامة معتقدين تمام الاعتقاد يومها أنه مُنجِّينا من النار؟
فما حدث في بيعة الرضوان هو عمل واحد لكل صحابي دار في ساعة أو ساعتين من الزمن، لكنه ظل حدثًا يقتدي به المسلمون ويتعلمون منه، بل ويحفظ في كتاب رب العالمين I وإلى قيام الساعة، وإننا لنريد لحظات صدق من هذا النوع من الأعمال، والتي يمكن أن تنجينا في الدنيا والآخرة.
[4] مسلم: كتاب الإمارة، باب استجباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة (1856).
[5] محمد بن عبد الوهاب: مختصر سيرة الرسول r، تحقيق عبد الرحمن بن ناصر البراك وغيره، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، ص301.
[6] ابن قيم الجوزية: الفروسية، تحقيق مشهور بن حسن، دار الأندلس، السعودية، الطبعة الأولى، 1414هـ- 1993م، ص493.
[7] رواه الترمذي (3701) ترقيم أحمد شاكر، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2920).
-----------------
قريش تقرر الصلح
متابعة لسير الأحداث، قررت قريش الصلح مع المسلمين، وبعثت رجلاً لإتمام عقد الصلح مع رسول الله r، فتُرى من ذا يكون؟
من المؤكد أن قريشًا لا يمكن لها أن ترسل وسيطًا، سواءٌ أكان من خزاعة أو من ثقيف أو من أي قبيلة أخرى؛ إذ إن رسول الصلح سيعبر عن قريش، وسيفاوض في بنود ستتأثر بها قريش تأثرًا مباشرًا، فلا بد إذن أن يكون رسول الصلح منها نفسها.
وإذا كان الأمر كذلك فمَن تبعث قريش؟ هل تُرسل عكرمة بن أبي جهل، أم خالد بن الوليد، أم أبا سفيان، أم صفوان بن أمية؟ وفي الحقيقة أن قريشًا لم تبعث أيًّا من هؤلاء؛ وذلك لأنهم -كما يعبرون هذه الأيام- كانوا يعدون من الصقور، فكلهم يريد محاربة المسلمين، وقريش (القاعدة العامة) لا تريد ذلك، إنما تريد أن تلطِّف جوًّا مشحونًا بالخوف ومعتمًا بالمجهول.
ومن هنا فقد أرسلت قريش رجلاً من الحمائم هو سهيل بن عمرو، ذلك الذي كانت له حياة هادئة في مكة، ولم يكن في سيرته مصادمات مباشرة مع المسلمين، الأمر الذي يمكنه من التفاوض مع المسلمين بهدوء، وهذا عين ما تريده قريش.
وبالفعل كان سهيل كذلك، حتى إن رسول الله r حين رآه قادمًا استبشر وبشر المؤمنين وقال: "قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ[8]، أَرَادَ الْقَوْمُ الصُّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرَّجُلَ"[9]. والفأل حسنٌ في الإسلام.
لكن في الوقت نفسه كان لقريش أغراض أخرى من تخصيص سهيل بن عمرو بالذات، فهو رجل موتور ومصاب من المسلمين في بيته؛ إذ إنه قد أسلم أربعة من أولاده وثلاثة من إخوته، فكأن الأمر بالنسبة إليه دفاع عن قضية شخصية.
فمن أولاده الذين أسلموا: أم كلثوم وسهلة وعبد الله، وقد أسلموا منذ زمن، ويعيشون الآن في المدينة المنورة، أما الرابع فكان أبو جندل وهو مقيد في بيته من قِبل والده سهيل؛ حتى لا يخرج ويلحق بالمسلمين.
أما إخوته الذين أسلموا فهم: السكران بن عمرو، وأبو حاطب بن عمرو، وسَلِيط بن عمرو. أي أن عائلته كلها قد أسلمت ولم يعُدْ يبقى غيره، الأمر الذي يعكس مدى مصابه في كرامته، وفي عزته بين قريش؛ مما يجعله يفاوض بكل حميَّة، ويستأثر من المسلمين بكل مصلحة ممكنة من أجل قريش.
[8] البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581)، ترقيم البغا.
[9] ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق مصطفى عبد الواحد، دار المعرفة، بيروت، 1396هـ- 1971م، 3/320.
----------------------
وقفة مع اتفاقية الصلح
قبل الدخول في بنود الصلح بين المسلمين وقريش نودُّ أن نقول: إذا قام فريقان بالصلح فإن هذا يعني أن القوتين متكافئتان، وأنه إذا حرص القوي (في الظاهر) على الصلح مع الضعيف، فهو يرى أن الضعيف هذا أقوى منه، الأمر الذي يسهل عليه فيه أن يقدِّم له (القوي) كثيرًا من التنازلات. فعلى الضعفاء أن يثبتوا على موقفهم، وأن يعلموا أن الحق معهم ولهم، ويتيقنوا بعد ذلك أن الله لن يخذلهم، وأن هذا مما يزلزل كيان الكافرين.
وفي تجسيد لهذا الدور فقد جلس القرشيون مع ما لهم من تاريخ وقوة وجنود وأحلاف، جلسوا مع الجماعة الضعيفة المستضعفة، تلك التي كانت تعيش عندهم، ثم هاجرت من ديارهم إلى المدينة المنورة، وقد جاءت تريد العُمْرة وهي بسلاح المسافر.
جلس الفريقان ليبرموا صلحًا من أجل مصلحتهما معًا، ويلتقوا -كما يقولون- في منتصف الطريق.
إيجابية معاهدات الصلح
وفي مثل هذه الاتفاقيات هناك إيجابية من الأهمية بمكان وهي أن كل طرف من طرفي المعاهدة قد أصبح معترفًا بالطرف الآخر، فإذا كان هناك جماعة لا دولة، وقليل لا كثير، ثُم تمَّ معها معاهدة صلح، فهذه إيجابية كبيرة؛ وذلك لأنها بداية الاعتراف بأنها أصبحت قوة مكافئة.
وما نحن بصدده الآن هو أن قريشًا ليست في حاجة لاعتراف الرسول r بها، ذلك أن تاريخها يرجع إلى أكثر من ستمائة عام، وهي قبيلة معترفٌ بها وسط مكة المكرمة، ووسط الجزيرة العربية، بل ووسط العالم آنذاك، ولها عَلاقات مع بعض الدول في العالم.
أما جماعة المسلمين فلم يكن يعترف بهم أحد؛ إذ إنها ما زالت جماعة ناشئة ضعيفة مستضعفة، وإذا اعتُرف بها من قِبل قريش فإن هذا يُعَدّ من أعظم إيجابيات صلح الحديبية.
ولعل أكبر دليل على ذلك ما نراه في أيامنا هذه، إذ دعت بعض الدول الكبرى مثل روسيا حركة المقاومة الإسلامية (حماس) -التي نجحت في الانتخابات التشريعية في فلسطين- للحديث معها والتحاور والتفاوض والتشاور، وهذا في حد ذاته هو اعتراف ضمني من قبل روسيا (من أكبر دول العالم) بشرعية حماس، الأمر الذي لم يكن ليتجاهله اليهود فغضبوا كثيرًا، حتى وإن كان سيتم في هذا التشاور وذاك اللقاء ما لا يغضبهم.
وهذا هو ما حدث مع الرسول r أيام صلح الحديبية، فبمجرد أن جلست قريش على طاولة المفاوضات معه r كان هذا اعترافًا منها أمام الجميع بدولة المسلمين وجماعتهم في الجزيرة العربية، وعلى رأسهم رسول الله r.
سلبية معاهدات الصلح
مع وجود الإيجابية السابقة في معاهدات الصلح إلا أن هناك سلبية أيضًا لا بد منها أثناء العقد، وهي أنه إذا جلس طرفان للتفاوض والصلح فلا بد أن يتنازل كل طرف عن شيء أو أشياء من حقوقه.
ومثل هذا بحاجة إلى وقفة متأنية، حتى إذا حدث مثل هذا بين المسلمين وبين غيرهم نكون على وعي تام بطبيعة هذا التفاوض وهذا الصلح، ونعي تمامًا ما الذي يمكن أن يتنازل عنه المسلمون ثم نتغاضى نحن عنه، وما الذي يمكن أن يتنازلوا عنه ولا يمكننا السكوت عليه.
ومن هنا فلا شك أن الرسول r في هذا الصلح سيقبل -لا محالة- بأمور من أجلها سيشعر المسلمون بغُصَّةٍ وألم في حلقهم، وهذا ما لا بد منه إذا ما جلس طرفان متكافئان للصلح، لا بد أن يقدِّم كل منهما تنازلاً، وإلا فلماذا التفاوض؟ وعلامَ الصلح؟!
ولو لم يكن الطرفان متكافئين من حيث القوة، وكان هناك غالب وآخر مغلوبًا، فلن يكون هناك إلا إملاء لشروط الغالب وتنفيذ لأوامره، ولن يكون هناك إلا معاهدات استسلام.
وهذه هي طبيعة المفاوضات التي تتم بين المنتصر والمهزوم، وفي هذه الأثناء يطلق عليها معاهدات فقط من أجل تسهيل الأمر على المهزوم؛ ليقبل بكل البنود والشروط، التي ما هي إلا إملاءات من المنتصر.
ولقد كان الوضع في الحديبية متكافئًا؛ فقد جاء الرسول r ومجموعة من المسلمين ليس غازيًا ولا فاتحًا ولا مهاجمًا لقريش، إنما يريد الدخول للعمرة فقط، وهم ما زالوا قوة ناشئة، وقريش تريد أن تمنعهم وهي قوة كبيرة؛ ولذلك فالجلوس إلى المفاوضات -إلى حد ما- فيه نوع من التكافُؤ.
-------------------
بنود صلح الحديبية
كانت معاهدة صلح الحديبية عبارة عن أربعة بنود، وإذا راجعناها وجدنا أن كل بند فيها يصب في صالح المسلمين، رغم ما كان قد ظهر لقريش من عكس ذلك، وحتى لا نستبق الأحداث نستعرض معًا كل بند لنرى في أيّ كفة كان يصب.
البند الأول: رجوع الرسول r وأصحابه من عامهم هذا، وعدم دخول مكة، وإذا كان العام القادم خرج منها أهلها ودخلها المسلمون بسلاح الراكب، وأقاموا بها ثلاثًا، ولا تتعرض لهم قريش.
لا شك أن رجوع الرسول r هذا العام هو في صالح قريش؛ وذلك أنه يحفظ لها نسبيًّا ماء وجهها، لكن قدوم الرسول r العام المقبل ودخول مكة دون مقاومة، بل وخروج أهلها منها وعدم التعرض مطلقًا للمسلمين، فهذا والله انتصار هائل للرسول r وللمسلمين.
ولنا أن نتذكر الأحداث الماضية، حيث ثلاث عشرة سنة من التعذيب ومحاولة الإبادة للمسلمين في مكة، وحيث الهجرة وفرار المسلمين بدينهم وقد تركوا كل شيء، وذلك قبل ست سنوات فقط، وحيث غزوتي بدر وأُحد، وحيث تجميع قريش والأحزاب وحصار المدينة منذ أقل من سنة واحدة.
فقد انهارت كل هذه المقاومة القرشية، وقَبِل المشركون بفتح باب دولتهم للمسلمين دون مقاومة، فأيُّ نصرٍ للمسلمين هذا! وأيُّ رفع لرأس المسلمين في الجزيرة العربية بكاملها! وأيّ إراقة لماء وجه قريش وسط الجزيرة العربية!!
فأين صقور قريش؟ وأين السلاح والعتاد؟ وأين العلاقات والأحلاف؟ وأين الأموال والاقتصاد الهائل لقريش؟ أين كل ذلك؟ لا شك أنه انهار أمام دولة المسلمين الناشئة الفتية.
ومن هنا فهذا البند -لا شك- هو في صالح المسلمين، وليس فيه اعتراف من قريش بدولة المسلمين فقط، ولكن فيه اعتراف بأن دولة المسلمين دولة قوية مهيبة الجانب، تُفتح لها أبواب مكة ويخرج أهلها منها. وهذا ما لم يحدث مع أي قبيلة أخرى في تاريخ مكة بكاملها.
البند الثاني: وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
وتُرى هذا البند يصب في مصلحة من؟ من الذي يحتاج إلى وضع الحرب ويرغب في الأمان؟ أليس هم المسلمون؟ أليس طلب الأمان كان بغية المسلمين، وكان طلبًا نبويًّا قبل المعاهدة وقبل الصلح؟ أوَليس الرسول r هو الذي قال لبديل بن ورقاء الخزاعي بأنهم إن جاءوا ماددتهم؟
فطلب الأمن -إذن- كان مطلبًا إسلاميًّا؛ إذ من الذي يحتاج أن يقيم دولته ويؤسسها؟ فدولة قريش مقامة منذ مئات السنين، أما دولة المسلمين الناشئة فعمرها ست سنوات فقط، وتحتاج إلى كثير وكثير من الإعداد والتأسيس.
وتُرى هل ستكون الدعوة في الجزيرة العربية أسهل في جو الحروب والدماء والعداوات المتكررة؟ أم أنها ستكون أسهل في حالة الأمان؟ والإجابة أنها ستكون -لا شك- أسهل في حالة الأمان، وهذا عين ما يريده المسلمون.
فهم يريدون أن يتحركوا في كل مكان بسهولة آمنين من الحرب، وفي الوقت نفسه تأمن القبائل المختلفة أيضًا حالة الحرب، وهذا يجعل حركة المسلمين لدعوة القبائل البعيدة عن المدينة المنورة، بل دعوة القبائل القريبة من مكة أسهل وأيسر كثيرًا عمّا إذا كانت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش، ومن ثَمَّ تزداد قوة المسلمين.
فالناس يحتاجون إلى تعريفهم معنى الإسلام، إذ إنه بمجرد معرفتهم إياه معرفة صحيحة فإن الفطرة السليمة -وما أكثرها- سرعان ما تتقبله وبلا تردد، فهم كانوا يخشون سماع كلمة الإسلام؛ لأن هذه الكلمة كانت تعني حرب قريش، وقريش هذه كانت أعز قبيلة في العرب، فإن أمن الناس حرب قريش فلتنظر كم سيدخل في الإسلام من رجال ونساء وأطفال.
وهذا بالفعل ما حدث، وما سنراه بأعيننا بعد صلح الحديبية.
إذن فهذا البند أيضًا يصبُّ بوضوح في صالح كفة المسلمين، ولكن هناك ملاحظة مهمة وهي: هل حين جلس المسلمون للهدنة والصلح مع المشركين كانوا قد أخذوا كل حقوقهم المسلوبة قبل ذلك؟ والحقيقة أن الجواب هو النفي قطعًا؛ إذ إن المسلمين قبلوا الهدنة قبل أن ترد إليهم كامل حقوقهم، فما زالت هناك ديار منهوبة، وما زالت هناك أموال مسلوبة، وما زالت هناك أرض محتلة من القرشيين، ومع ذلك قَبِل المسلمون بالهدنة قبل أن تردّ إليهم هذه الحقوق.
وهذا يعني أنه من الممكن أن يجلس المسلمون مع الأعداء لعقد هدنة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، وهم بعدُ لم يأخذوا كل حقوقهم، ولكن يجب أن نعي أن المسلمين في هذه المعاهدة لم يقروا قريشًا على أي حق مسلوب للمسلمين عند القرشيين، لم يقولوا أنهم تخلوا لهم عن ديارهم وأرضهم وأموالهم، لكن كل ما في الأمر أن هذه الهدنة من أجل أن تضع الحرب عشر سنين، بعدها سيطالب المسلمون بكامل حقوقهم، وسيسعون لاسترداد كل ما سلب منهم.
ومن هنا فإن جلوس المسلمين لعقد صلح مع أعدائهم وقبولهم الهدنة دون إقرار العدو على حقوقهم المسلوبة يُعَدّ أمرًا شرعيًّا، لكن إذا أقر المسلمون لعدوهم بحقهم المسلوب فهذا غير جائز وغير شرعي، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنة مثل تلك المعاهدات التي قام بها r بمعاهدات أخرى أقر فيها المسلمون لعدوهم بحقوقهم؛ فهذا شيءٌ وما فعله r كان شيئًا آخر تمامًا.
ثمة فارق ضخم وهائل بين معاهدة صلح الحديبية وبين المعاهدات التي قام بها بعض من ينتسب إلى الإسلام في عصرنا هذا مع اليهود، والتي أقروا فيها لليهود بممتلكات إسلامية خالصة.
البند الثالث: من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. وتعتبر القبيلة التي تنضم لأي الفريقين جزءًا من هذا الفريق، أي أن أي عدوان تتعرض له أيٌّ من القبائل يُعَدّ عدوانًا على ذلك الفريق التابعة هي له، ويعتبر في الوقت ذاته مخالفة واضحة للاتفاقية.
وتُرى في أي كفة يصب هذا البند؟ فهذه قريش أعظم قبائل العرب، والذي يريد أن يدخل في عهدها لا ينتظر معاهدة بهذه الصورة، أما القبائل التي تريد أن تدخل في عهد محمد r وحلفه فإنها كانت تتردد ألف مرة خوفًا من بطش قريش وحلفائها، أما بعد صلح الحديبية وبعد وضع الحرب، فإن هذا الذي كان في قلبه تردد وخوف سرعان ما سينضم إلى فريق المسلمين في أمن وطمأنينة.
فهذا البند لم تستفد به قريش مطلقًا، بينما استفاد المسلمون استفادة قصوى من انضمام تلك القبائل الجديدة إليهم بعد أن أمنت خوف قريش وبطشها؛ فهو إذن في صالح المسلمين مائة بالمائة.
وكان أكبر دليل على ذلك أن قبيلة خزاعة لم تدخل في حلف المسلمين إلا بعد صلح الحديبية هذا، مع أنها كانت من أكثر القبائل قربًا إلى رسول الله r، حتى إن كُتَّاب السير يقولون: إن خزاعة كانت عَيْبَةَ نُصْحِ[10] رسول r[11]. وهو ما رأيناه قبل ذلك كثيرًا، حيث كان الرسول r يرسل عيونًا من خزاعة، وكان يتحالف معهم.
فخزاعة هذه رغم ما كان بينها وبين الرسول r، إلا أنها لم تدخل في حلفه إلا بعد صلح الحديبية، فما البال ببقية القبائل إذن؟!
ومن هنا فهذا البند أيضًا كان في صالح المسلمين، خاصةً إذا علمنا أنه هو الذي سيكون سببًا في فتح مكة المكرمة، فأيُّ خير جاء من ورائه!
البند الرابع: من جاء قريشًا ممن مع محمد r (أي هاربًا منه) لم يرد إليه، ومن أتى محمدًا r من غير إذن وليه (أي هاربًا منه) يرده إليهم.
ويعني هذا أن من يأتي إلى المسلمين من أهل قريش بعد صلح الحديبية فعلى المسلمين أن يرجعوه ثانية إلى أقاربه إذا كان أهله يرفضون إسلامه. وبالتأكيد فكل المشركين سيرفضون إسلام أهل مكة، وعلى الناحية الأخرى فإنه إذا ارتدَّ أحد المسلمين وذهب إلى مكة، فعلى مكة ألا تعيده إلى المسلمين، وهذا في ظاهره في صالح القرشيين.
وفي تحليل الجزء الأول من البند، فإن الذي يهرب من الصف المسلم إلى الصف الكافر - كمن يرتد مثلاً ويقرر أن يكون في صفِّ قريش - هل المسلمون في حاجة إليه؟ هل يتمسك به المسلمون ويجبرونه على البقاء في المدينة المنورة وهو كاره للإسلام وللمسلمين؟! هل هذا فيه مصلحة للمسلمين؟
الحقيقة أن المسلمين ليسوا في حاجه لمثل هؤلاء، بل إن هذا البند إذا كان غير موجود في هذه المعاهدة فإن الذي سيرتد من المسلمين كان سيُبطن هذه الردة ولن يظهرها؛ وذلك خوفًا من أن ترجعه قريش ثانيةً إلى المسلمين فيعرفوا أمره.
لذلك فإن هذا البند كان يسمح لكل من في قلبه مرض أن يظهره، وبذلك يتخلص منه المسلمون، وقد قال الله U في كتابه الكريم: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
فلماذا يُبقِي المسلمون منافقًا داخل المدينة المنورة يدل على عوراتهم، وينقل أخبارهم إلى المشركين، ويدلي بآراء فاسدة في قضايا تهمُّ المسلمين؟ فهذا - ولا شك - فيه خطورة شديدة عليهم، كما أنهم ليسوا في حاجة إلى من يظل معهم بجسده وهو ليس معهم بقلبه وجوارحه، ومن هنا كان التخلص منه أفضل لمصلحة المسلمين. إذن فهذا الجزء الأول من هذا البند هو في صالح المسلمين.
بقي الجزء الثاني منه وهو الذي فيه سلبية واضحة لهم؛ إذ إنه يعني أن كل من يأتي من أهل مكة إلى المسلمين مسلمًا، سواءٌ أكان هذا الإسلام قبل هذا الصلح أم بعده، فإن على المسلمين أن يردوه إلى مكة المكرمة ثانية، يردونه إلى أهله من الكافرين.
وقد كان مثل هذا الصنيع يعرض المسلم الذي يهرب من أهله في مكة إلى المسلمين، ثم يرده المسلمون إلى أهله ثانية في مكة ولا يجيرونه، يعرضه إلى أن يعذب ويفتن في دينه حتى يكفر بالله U، هذا إضافةً إلى أن المسلمين سيخسرون قوته؛ إذ من المفترض أن تضاف قوته إلى قوة المسلمين، فكانت هذه سلبية كبيرة تُعَدّ في صالح قريش.
ومن هنا نستطيع أن نقول: إن هذه هي الفائدة الوحيدة التي استفادت منها قريش في هذه المعاهدة الطويلة، وهي نصف بند في أربعة بنود، أي ما يعادل ثُمْن المعاهدة، ولا بد أن يكون في بنود المعاهدة شيء في صالح قريش وإلا لم تتم المعاهدة، إلا أنه رغم ذلك فإن هذه الجزئية من هذا البند لا تخلو أيضًا من فائدة كبيرة للمسلمين.
فالمسلم الذي سيرجع إلى مكة قد يصبح مصدرًا للاضطرابات داخل دولة مكة؛ إذ قد يدعو إلى الإسلام فيها، وقد يؤثر على عقليات المشركين في داخل مكة، وقد يجتمع هو وغيره ممن سيكونون على شاكلته فيصيبون المشركين بأذى داخل مكة أو خارجها، بل قد يخفي إسلامه ويدل على عورات المشركين، ويُحدِث خللاً في داخل صفوفهم، طالما هو غير قابل لدينهم وغير قابل لعبادتهم، ومن ثَمَّ فقد يكون مثل هؤلاء خطرًا حقيقيًّا على المشركين.
وهذا هو عين ما سيحدث بعد ذلك على نحو ما سنرى.
[10] أي خاصته وأصحاب سره.
[11] ابن هشام: السيرة النبوية، القسم الثاني (الجزء الثالث والرابع) ص312.
-------------------------
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الثالث :
توثيق عقد الصلح وكتابته
إذا راجعنا بنود الصلح الأربعة السابقة سنجد -كما رأينا- أنها في الغالب في صالح المسلمين على حساب قريش، ففيها فوائد جمَّة للمسلمين ومزايا عميقة لهم، فهذه سبعة أثمانها في صالحهم والثُّمُن الوحيد الذي في صالح المشركين هو أيضًا في صالح المسلمين، وإن كان فيه خسارة.
وهذا هو صلح الحديبية الذي سيكون له نتائج مغيِّرة، ليس تغيير وجه الجزيرة العربية فقط ولكن وجه العالم أجمع.
وبعد أن تم الاتفاق على بنود هذا الصلح شفهيًّا كان لا بد أن يوثّق ويسجل في صحيفة تكون بين الدولتين، ويوقع عليه الطرفان، ويعترف به في الجزيرة العربية بكاملها.
ومن ثَمَّ فقد جلس الرسول r مع سهيل بن عمرو لكتابة صحيفة الصلح، وكان الرسول r أُمّيًّا لا يكتب ولا يقرأ، فكان الذي يكتب هو عليّ بن أبي طالب t، والذي يملي عليه كلمات المعاهدة هو رسول الله r، وفي هذا أيضًا إشارة قوية إلى أن اليد العليا في المعاهدة كانت للمسلمين.
أملى رسول الله r على عليٍّ أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم (بداية كل عمل للمسلمين)، فوقف سهيل معترضًا (مع ملاحظة أن كل اعتراضات سهيل بن عمرو كانت شكلية لا أكثر) يقول: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم".
وهنا تتبدى مرونة الرسول r، حيث قال لعلي t: "اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ".
إذ إن هذا لا يعدو أن يكون اختلافًا شكليًّا، وليس فيه معارضة لأمر شرعي من أمور المسلمين.
محا علي بن أبي طالب البسملة وكتب باسمك اللهم، ثم أكمل r فقال: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".
ولم يتمّها حتى وقف سهيل مرة ثانية قائلاً له: "والله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمد بن عبد الله".
فهم لم يعترفوا بعدُ بنبوة المصطفى r، فكيف إذن يكتب ذلك في الصحيفة ويوقِّع عليها سهيل نيابة عن قريش؟ وهنا قال الرسول r مبديًا المرونة: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي".
ثم أمر عليًّا أن يمحو (رسول الله) ويكتب: "هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ".
وهنا وقف علي t معترضًا على محو (رسول الله)، فما كان منه r إلا أن بسَّط هذا الخلاف تمامًا، وأمر عليًّا أن يريه موضع هذه الكلمة، فأشار له، فمحاها r بنفسه[12].
فكان سهيل بن عمرو يأخذ الرسول r في تفريعات وقضايا جانبية بعيدة عن الصلح، وعن أصل الموضوع الذي من أجله كانت هذه المعاهدة، وكانت رؤية الرسول r وموقفه واضحًا تمام الوضوح؛ إذ إنه يعلم مقصوده ومراده، ويعلم أن بنود هذه المعاهدة في صالح المسلمين، ويعلم أن هذا نصر لم يكن يحلم به المسلمون قبل ذلك، وهو يريد لهذه المعاهدة أن تتم.
فقد كان كل طموح المسلمين أن يدخلوا مكة للعمرة ثم يعودوا ثانيةً إلى المدينة المنورة، والآن حصلت لهم كل هذه المكاسب، فعلامَ يقف أمام كلمة كذا أو كذا، وهي لا تقدِّم شيئًا أو تؤخر في الصلح، فهو حقًّا محمد بن عبد الله r، فما وجه الاعتراض إذن؟ ولماذا لا يكتب وتمر المعاهدة بسلام، ويخرج المسلمون بكل الفوائد التي فيها؟!
وهذه هي المرونة في مثل هذه الأحوال، ألاّ نتمسك بأشياء لا تقدم ولا تؤخر، وليس فيها مخالفة شرعية، وكان هذا واضحًا من إقرار الرسول r محو هذه الكلمات، فهو r لا يُقِرّ باطلاً أبدًا.
فنحن في حاجة إلى تفهُّم مثل هذه الأحداث، ونعي جيدًا متى نتشدد ونتمسك؟ ومتى نتساهل ونتنازل؟ متى نقول: من المستحيل أن نتنازل عن هذا الأمر؟ ومتى نقول: من الممكن أن (نمحو) هذا الأمر؟
[12] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء، مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص298، 299.
----------------
عقد الصلح في الإسلام
كانت السيرة -ولا تزال- مليئة بالكنوز وكلها أمور واقعية، فما سبق وقد حدث منذ ألف وأربعمائة عام ما زال له -وسبحان الله- تطبيق في كل يوم من حياتنا اليومية.
وفي توضيح لذلك فقد بيَّن هذا الصلح كيف يكون عقد الصلح في الإسلام، وما شروطه، ونذكر من ذلك ما يلي:
أولاً: أنه لم يكن فيه إقرار للمشركين على باطل، ولم يكن فيه تنازل عن شيء من الدين، وليس فيه إعطاء قريش أرضًا ليست لهم، أو الاعتراف لهم بها. كما أن هذا الصلح لا يمنع المسلمين من التسلح وإعداد العُدَّة، وأيضًا لا يمنع المسلمين من عقد الأحلاف، كما أنه لا يأمر المسلمين بتغيير المناهج أو الثوابت.
وهذا هو الصلح في الإسلام.
ثانيًا: أن هذا العهد وهذا الصلح الذي تمَّ بين الرسول r وقريش لم يُقِرّ الصداقة بين العدو والمسلمين، وإنما وضع الحرب فقط مدة عشر سنوات على بقاء الحالة كما كانت عليه (حالة العداوة) بين المشركين والمسلمين.
ثالثًا: أن هذا العقد إلى أَجَلٍ وهو عشر سنوات، وبعدها فبالإمكان أن نجلس معًا ونتفاوض من جديد، فإذا أردنا أن نمد الفترة مرة أخرى وإلا فلا، وليس هناك ما يسمَّى بسلام دائم، أو سلام مقرون بعودة الحقوق.
رابعًا: أن هذا العقد واضح البنود؛ إذ ليس فيه بند مبهم يحمل على أكثر من محمل؛ وذلك حتى يضمن المسلمون كافة حقوقهم ودون خداع من الطرف الآخر.
خامسًا: أن هذا العقد عُقد وكان للمسلمين قوة تستطيع أن تردع العدو إذا خالف أيًّا من بنود المعاهدة، أما إذا لم تكن هناك هذه القوة فلا معنى إذن للمعاهدة؛ إذ ماذا سوف يحدث لو خالف العدو هذه المعاهدة بعد ذلك وهي ما زالت في حيز التنفيذ؟ هل يذهب المسلمون إلى من يشتكونهم إليه أو يشجبون ويندبون، ويدعون هذا وذاك ليدافع عنهم؟ أم أن لهم قوة كافية لردع العدو ومعاقبته على الفور إذا خالف المعاهدة؟
ولا شك أن الرسول r كان عنده قوة الردع هذه، وسنرى أثر ذلك بعد عامين من تاريخ الصلح حين تخالف قريش وأحلافها من بني بكر المعاهدة، سنرى كيف سيردع الرسول r قريشًا وأحلافها عندما يخالفون المعاهدة مع المسلمين.
أما إذا كان المسلمون ضعافًا وحدثت مخالفة ولم يستطيعوا أن يردعوا المخالفين، فماذا سيكون الموقف؟ لا شك أنه سيكثر الاستهزاء والاستخفاف بهم. وهذا شيء طبيعي جدًّا حتى ولو كان قد تدخل طرف ثالث في المعاهدة لضمان تنفيذ الطرفين للبنود، ثم هل سيكون الطرف الثالث هذا على الحياد وقوي بحيث يستطيع أن ينصر الطرف المعتدَى عليه؟ أم هو مع طرف دون الآخر ينصره أيًّا كان وضعه؟
وهذا الأمر في غاية الأهمية، فإذا لم يملك المسلمون القوة الكافية للردع عند المخالفة فلا معنى إذن للمعاهدة.
--------------------
معاهدة صلح الحديبية ومعاهدات المسلمين حديثًا
ما مضى يجعلنا نقف بعض الشيء ونراجع أنفسنا قليلاً، ونحلل بعيدًا عن العصبية معاهدة صلح الحديبية بالمقارنة بمعاهدات المسلمين مع اليهود في زماننا هذا.
وكما نعلم فإن أشهر هذه المعاهدات هي (كامب ديفيد) وكانت البداية، ثم تلا ذلك معاهدات كثيرة لعل أشهرها (معاهدة أوسلو)، ومعاهدة (خريطة الطريق)، وغيرها مما حدث بين المسلمين واليهود.
ففي هذه المعاهدات أُقر اليهود فيها على باطل، وهو امتلاكهم لأرض فلسطين أو لجزء منها، والتي كان المسلمون جميعهم مقتنعين تمام الاقتناع أنها أرض إسلامية أو عربية - كما يقولون - ثم بعد هذه المعاهدات أقر بعض المسلمين أن جزءًا من أرض فلسطين لم يعُدْ ملكًا للمسلمين، وإنما صار ملكًا لليهود.
وفي هذه المعاهدات أيضًا قُلِب العداء بين المسلمين واليهود إلى صداقة وموالاة، وبالطبع كان لا بد أن يتبع هذا رفع عداوة اليهود من مناهج التعليم ومراكز الإعلام، فيخرج جيل من المسلمين لا يعرف عدوَّه من صديقه، وهو أمر غاية في الخطورة.
وفي هذه المعاهدات لم يحدد المسلمون فترة زمنية معينة، وإنما تركت للسلام الدائم مهما حدث ومهما يحدث، وهذا أغرب من الخيال.
وفي هذه المعاهدات لم يعترف اليهود بالأحلاف التي بين المسلمين والدول الأخرى؛ ففي (كامب ديفيد) -مثلاً- لم يعترف اليهود بمعاهدات مصر مع الدول الأخرى، ومعنى هذا أنه لو حدث وحاربت إسرائيل دولة أخرى من دول العالم الإسلامي فليس لمصر أن تعترض؛ وذلك لأن بنود المعاهدة تقر بأنه ليس هناك حرب بين إسرائيل ومصر.
وقد حدث بعد ذلك أن غزت إسرائيل لبنان -بعد كامب ديفيد بسنوات قليلة جدًّا- في سنة 1982م، ولم تستطع مصر أن تدافع عنها بجيشها، رغم ما كان من وجود (معاهدة دفاع مشترك) بين مصر ولبنان، كان قد أقرها ميثاق جامعة الدول العربية.
وكان مرجع ذلك أن هذا العقد عُقد ولم يكن للمسلمين القوة الكافية للردع حال المخالفة، بل إن (سيناء) التي كانت محل النزاع لم يُترك فيها جيش مصري وفق بنود الاتفاقية، وأقصى مسافة له من الممكن أن يوجد بها تكون على بُعد خمسة كيلو مترات من قناه السويس، بينما يوجد جيش اليهود على بُعد ثلاثة كيلو مترات من رفح.
هذا وقد ظلت سيناء المصرية بكاملها خالية من السلاح وخالية من الجيش، مع أنه من المفترض أنها أصبحت أرضًا مصرية، وبالتالي فإن الجنود المصريين أو المسلمين يكونون عند الإسماعيلية وبورسعيد والسويس، وجنود إسرائيل يكونون عند رفح، ومعنى هذا أنه في أي لحظة من لحظات التعدي فسرعان ما يكون الجنود اليهود في سيناء. وقد رأينا ذلك حين حدثت مخالفة في داخل رفح، إذ لم يستطع المصريون المقاومة المسلحة بسبب بُعد الجيش؛ إذ كان من المفترض أن يكون على بُعد ثلاثة كيلو مترات من رفح كما هو الحال عند اليهود، ما دامت (رفح) هي الحد الفاصل.
وإن تعجب من هذا فأعجب منه أن الذي يراقب هذا العهد هي أمريكا الموالية لإسرائيل والأمم المتحدة المؤسَّسة لأجل إسرائيل كما نرى بأعيننا، ثم الأخطر من كل ما سبق أن في هذه المعاهدة تم أول اعتراف بدولة إسرائيل كدولة مستقلة فوق أرض فلسطين، وذلك من قِبل دولة من أكبر دول المنطقة وهي مصر، وإن هذا ليُعَدّ من أكبر وأفضل إنجازات اليهود على مدى الخمسين سنة الأخيرة؛ إذ إنه قبل كامب ديفيد كان المسلمون جميعًا يطلقون على اليهود مصطلح (الكيان الصهيوني) أو يطلقون عليهم اسم (المحتلين اليهود)، أما بعد كامب ديفيد لم تعُدْ إلا (دولة إسرائيل)، وقد أصبح لها سفارات في معظم دول العالم الإسلامي.
أيضًا كان من المفارقات بين صلح الحديبية وكامب ديفيد أن نتائج كلٍّ منهما كانت مختلفة تمامًا عن الأخرى، فبعد كامب ديفيد واعتراف مصر بإسرائيل، تم فصل مصر تمامًا عن العالم العربي، ومقاطعتها من قِبل أشقائها، وحدث شقاق كبير في الصفِّ المسلم، أما بعد صلح الحديبية فقد حدث العكس تمامًا؛ فقد دخل مسلمو اليمن في الدولة الإسلامية، وعاد مسلمو الحبشة إليها أيضًا، ثم بعد ذلك توافدت القبائل المسلمة، الأمر الذي حدث معه وَحْدة وليس فُرقة.
لقد كان صلح الحديبية بالفعل يشبه كامب ديفيد، لكن كان ذلك بطريقة عكسية؛ وهذا يعني أن اليهود حققوا الفوائد التي حققها المسلمون من صلح الحديبية، أما المسلمون في زماننا فقد خسروا الخسائر التي خسرتها قريش فيها. ولا حول ولا قوة إلا بالله!!
--------------------
موقف الصحابة من صلح الحديبية
متابعة لسير الأحداث بعد صلح الحديبية وبعد كتابته بين الرسول r وسهيل بن عمرو، كان هناك موقف لا يمكن تجاهله للصحابة رضوان الله عليهم، فقد رفض جُلُّهم هذا الصلح؛ إذ لم يروا إلا سلبياته فقط، ولم يروا إلا الجزء الثاني من البند الرابع، والذي فيه إعادة المسلمين إلى الكفار مرة ثانية إذا قدموا إليهم، وكان هذا منهم، بينما كان الرسول r ينظر إلى الموضوع ذاته بنظرة أكثر شمولية، نظرة تتميز بوضوح الهدف وعمق التحليل.
فلم يكن الهدف عند رسول الله r استئصال قريش، ولم يكن الهدف عُمْرة عابرة في حياة المسلمين، وأيضًا لم يكن الهدف إذلال قريش بالدخول إلى مكة رغم أنفها، وكذلك ليس الهدف إيمان مكة فقط، إنما كان الهدف أعمق من ذلك بكثير.
كان الهدف هو نشر دين الله U في الأرض قاطبة، حتى ولو تأخر إسلام مكة عدة سنوات، وهذا يعكس النظرة الشمولية للأمور وبُعد النظر فيها، فمع أن مكة أحب بلاد الله إلى قلب رسول الله r، إلا أنه كان ينظر نظرة شمولية للأرض، وفي الوقت ذاته نظرة واقعية للأحداث.
وهو الأمر الذي لم يكن في ذهن الصحابة في ذلك الوقت، إنما كان جُلُّ همهم أن يدخلوا مكة المكرمة هذا العام، كان جُلّ همهم ألا يُعيدوا المسلمين الذين يسلمون إلى مكة مرة ثانية، لكن الرسول r كانت نظرته أوسع وأعمق من ذلك بكثير، لقد كان يرى كل الفوائد التي أسلفنا الحديث عنها في بنود هذا الصلح، ومن هنا قَبِل r الأمر الذي رفضه جُلّ الصحابة.
الشورى والديمقراطية
حيال الأمر السابق بين موقف الرسول r وموقف الصحابة رضوان الله عليهم من صلح الحديبية، يطرأ سؤال مهم ويحتاج إلى وقفة خاصة.
هذا السؤال هو: لماذا لم ينزل الرسول r لرأي الصحابة عملاً بمبدأ الشورى، مع أن الأغلبية منهم لم تقبل بهذا الصلح؟! لماذا خالف الرسول r جُلَّ الصحابة فيه؟ أين مبدأ الشورى في هذا الموقف؟!
وفي معرض الإجابة على هذا السؤال وأمثاله، فهناك نقطة غاية في الأهمية لا بد أن نعيها جيدًا، وهي أن الشورى لا تكون إلا في الأمور التي ليس فيها وحي، أو أمر مباشر من رب العالمين، أو من رسوله الكريم r.
وقد أشار الرسول r قبل ذلك وفي أكثر من مرة، بأن هذا الأمر هو وحي من رب العالمين I، فالرؤيا التي رآها في المدينة المنورة -كما ذكرنا سابقًا- كانت وحيًا منه I، والناقة التي حُبِست من دخول مكة المكرمة قال عنها r أنها "مَا خَلأَتْ... وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ". إذ فهم r من ذلك أنه إشارة واضحة من رب العالمين I بأنه لا يريد له أن يدخل مكة المكرمة هذا العام؛ لذلك ذكر r للصحابة أنه سيقبل بأي خطة تعظم حرمات الله U، وفيها منع للقتال.
ثم بعد ذلك سيذكر r كلمه توضح أن كل المعاهدة كانت بوحي من رب العالمين I، سيوضح لبعض الصحابة عندما يجادلونه في هذا الأمر أهمية هذه المعاهدة من حيث إنها أمر من رب العالمين I، فقد قال: "إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَسْتُ أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي"[13].
وهنا يكون قد وضح تمامًا أن هناك وحيًا في أمر هذه القضية، وهناك أمر مباشر من رب العالمين I أن يقبل رسول الله r هذه البنود، وهنا لا وجود البتَّة لمبدأ الشورى، وهذا فارق ضخم بين الشورى وبين الديمقراطية.
فالشورى في الإسلام تكون في الأمور التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين I، أو من رسوله الكريم r، أما في الديمقراطية فكل شيء موضع نقاش وتشاور؛ أيّ شيء موضوع لاجتماع الشعب، أيّ شيء موضوع للأغلبية حتى ولو أحلت حرامًا أو حرمت حلالاً، فهذا في عُرْف الديمقراطية مقبول، أما في عرف الإسلام فغير مقبول.
وهناك نقاط تماسّ بين الشورى والديمقراطية، حيث يرجح في كليهما رأي الشعب ورأي الأغلبية، وذلك في القضايا التي ليس فيها أمر مباشر من رب العالمين I، أو من الرسول r وهذا هو الشبه، لكن الفارق الهائل أن مرجعيتنا في الشورى إلى الإسلام وإلى كتاب الله وسُنَّة نبيه r، وهذا من أعظم الفوارق بين المنهجين الديمقراطية والشورى.
[13] رواه البخاري: كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط (2581). وانظر: ابن كثير: السيرة النبوية 3/320.
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الرابع :
__________________________________________________ __________
>>>> الرد الخامس :
يسلمووو
انا عندي لكن مختصر